د. هدية الأيوبي
كيف يمكن الدخول في الشعر بتجرد دون ان نشير الى بلاد مشردة بين اللغات والبلدان؟وهل يمكن الإحالة الى الذات الشاعرة دون أن نتأثر بتفاصيل جغرافية وتاريخية؟لا بد من أن تتراءى ، خلال التجربة الإبداعية، تفاصيل حيوات مختلفة عاشها الشاعر بين أمكنة قد تتسع وتضيق ولكن المعاناة ولو انتهت تترك آثاراً وندوباً على جلد القصيدة. ولعل أبرز ما يميز الشعر الكوردستاني في المهجر هو تجربة الغربة التي تتجذر من الوطن الأم حتى بلد المنفى. ويتفاوت حضور الغربة من شاعر إلى آخر، و من نص إلى آخر، بحسب التجربة الشعورية.
قصيدة الشاعر الكوردستاني بدل رفو المزوري”فاتنة بلون الغدر والرماد” تشبه بحيرة صبت فيها أغزر ملامح تجربته في الغربة.غربة بلون الغدر الساطع في معاناة مهاجرين حالمين.هل الرماد هو رمز احتراق الشاعر من أجل أن يشع الأمل؟ لا نقرأ في النص الحنين الى الوطن بقدر ما نستشف سيرة الغريب الراكض وراء سراب حلم يقوده إلى البعيد . عم تبحث أيها الكوردي المهاجر؟ عن الوطن ؟” لا وطن يحتضن عشقي الدامي”. عن الأمان؟
” لاحضن دافىء يذرف دموعاً حرّى
تقيني زمهرير شتائي”.
أم عن الحب؟ “أركض وراء السراب وأجري
وراء هوى رومانسيّ”.
وماذا بعد؟ وكيف الخلاص مما علق في الذاكرة والقلب والجذور من بلاد نأت ولكنها مازالت حاضرة بشكل أو بآخر؟ كيف نخلص الذاكرة من غبار الأمكنة القديمة؟ وكيف نمحو من القلب الشعور بالانتماء الى مكان عزيز مهما كانت اشكاليات ذاك المكان؟ يتوقع الغرباء دوماً أن يكون المكان الجديد هو زمن البريق والمطر والتحليق في فضاء الروح للخلاص من وحشة العزلة. فيقع الشاعر فريسة وحشتين : وحشة الروح ووحشة المكان.
“أزمنة تتكسّر في رأسي”
وهل هناك في الغربة سوى الغربة وأزمنة تهرس الأحلام وتطحن كل أمل؟ ضلَّ الغريب وضلّ الحلم وضلّ العشق. فإلى أين تأخذ المنافي الغرباء؟ وكل ما سمعوه عن حضارات المرايا والموسيقى الكلاسيكة والدانوب الأزرق يتداعى تحت ثقل التجربة المرة. يحضر نهر الدانوب في القصيدة بصورة غير مباشرة من خلال ” شتراوس” صاحب سيمفونية “الدانوب الأزرق الجميل”. والنهر حاضر دوماً في قصائد الشعراء وكأنه المصب الأخير حيث يرمون أحزانهم. النهر مكان للرومانسي ، حيث تنعكس على صفحته كل حياته الماضية وحيث يرمي أحزانه أو يرمي نفسه.
أين المفر؟ ألى غربة جديدة ؟ أم ستكون التجربة باباً الى انبثاقات أخرى في الحياة والشعر؟ ويبقى الشعر هو اليقين الأكيد الذي ” يظل يرقص مع حسناوات العالم” تحت سماوات المنافي.
لا تتكيء القصيدة على الصورة الفنية بقدر ما هي منبسطة كسهل من المفردات والمشاعر. لكن الأبرز هو تضافر عناصر الزمان والمكان في نسيج تنضح منه معاناة الغرباء بحثاً عن الزمن المفقود.
الزمن هو المؤثر الأول في القصيدة لأن الزمن توأم الغربة وعدو الحلم . حيث تبرز مفرداته : عمري ،لحظات،ميلاد، شتائي،أزمنة،ليالي، زمن القياصرة ، الأمس ، اليوم. زمن القصيدة يمتد بين الماضي الملون بالحزن والفرح معا وبين الحاضر المفتوح على ترددات وأمواج من الحنين والأمل الممزوج بالألم.
وتتكاثف الأفعال لتعبر عن ثلاثة ازمنة :
الزمن الأول هو زمن البدايات والبحث عن الذات والآخر/ أركض ،أجري.
وزمن ثان ٍتصاعدي يحلق نحو فضاءات الحلم: ينتشلني، يحلّقُ، تتفجرَ، تنهمر،تبرق،يستحيل.
وزمن ثالث هو لحظة الانكسار والسقوط بين حدّي الحلم والواقع: يُداسُ ،تستحيل،تنغرز، يذرف،تتكسّر.
الفعل المشترك بين الزمن الثاني والثالث هو فعل “يستحيل”. إنه التحول المحيي في زمن الحلم والتحول المدمر في زمن الصدمة. هكذا يبحث الشاعر عن زمن آخر في المكان حين يتهيأ له أن الانتقال الجغرافي هو الملاذ والمرفأ والسلام ، عبر خط يمتد من كردستان الى فيينا مروراً بأزقة الشام القديمة. لكن الغربة في المكان لا تشفي من الغربة الزمانية في محطات الاغتراب.
في حين تتراءى رومانسية الأحلام تقودها قصص العشق الخالد: سليمان، أسمهان…على أنغام الدانوب الأزرق لشترواس. الأسطورة هي التي تغذي الذاكرة منذ زمن الطفولة ، ” أيام جدتي المسكينة “. ويبحث الحالم عن شظايا ذاته المبعثرة على ضفاف بحيرة البجع.
وحشة..عشق ضال .. العشق الدامي.. في قصيدة “فاتنة بلون الغدر والرماد” تبرز معاناة المنفي المنسي الذي خانته البلاد والغربة فمضى يتتبع أثر روحه في مساقط الحلم باحثاً عن عشق رومانسي مستحيل يخرج منه مضرجاً مثخناً بالجراح. إن هو إلا شيء جميل يبقى الملاذ والفضاء الحاني على الأحلام وعلى الذات المنسية. وحتى لحظة السقوط والانكسار تكون رومانسية أكثر منها مؤلمة..ربما كانت السخرية السبيل الوحيد لمواجهة العالم:
“ويظل الشعر يرقص
برفقة حسناوات العالم
وانغام شتراوس
وليالي الأنس في فيننا”
رقصة الفالس الرومانسية تتماهى مع رقصة الغدر او رقصة الفينيق في النار الأخيرة. أليس الرقص الرومانسي هنا أشبه ما يكون برقصة الدراويش التي تسلخ الوعي عن المكان والزمان من أجل النسيان والغرق في زمان الحلم!
ونخرج بسهولة من الخاص إلى العام. فنرى في النص تأطيراً لتجربة الغربة في أي زمان ومكان؛ تعددت الغربات والأسباب واحدة. وتغيب صورة الشاعر الشخصية لتحضر لقطات سريعة لقوافل المهاجرين من بلادهم بحراً وبراً أو جواً بحثاً عن الفردوس المفقود.
أتكون الفاتنة هي البلاد البعيدة التي ترتجف أوتارها في القلب؟ أم هي البلاد الغريبة حيث تنتصب أشجار الذكريات تارة كمشانق تتدلى منها أرواح الغرباء وتارة كمصابيح تضيء الأحلام ؟ أم هي المعشوقة التي تتماهى مع البلاد والمرافئ وتتلون بألوانها ؟بين غربة الروح وغربة المكان يتصدّع الوجود فتكون القصيدة ويصبح الشعر هو الوطن والمنفى .هل يلحق الشاعر بقطار الحلم السريع؟ أم أن محمود درويش صدق حين قال:
“ليس للكردي إلا الريح”؟!
فاتنة بلون الغدر والرماد
شعر: بدل رفو
طوال عمري
أركض وراء السراب وأجري
وراء هوى رومانسيّ
ينتشلني من وحشة عزلتي
يحلّقُ بي في سماء مرافىء الروح
حتى تتفجرَ الغيوم في راحة يدي
تنهمر مطرا …
وتبرق النجومُ على جبهتي
يستحيل صدري ملاذا
وقلبي بؤبؤاً للسلام
للحظات عشق يأتي
لكنما يُداسُ قلبي
وتستحيل النجوم
أشواكاً تنغرز في قلبي المُضنى
بميلاد عشق ضال
في محطات الإغتراب
لاوطن يحتضن عشقي الدامي
لاحضن دافىء يذرف دموعاً حرّى
تقيني زمهرير شتائي
ولا أحاسيس حميمة تُراقص أشعاري
إنما أزمنة تتكسّر في رأسي
حيث تطوف أزقة الشام القديمة
بي في عصور الفتوحات
وحضارات لم أعشق حسناواتها
يالها من أحاسيس ومشاعر
تباع في وطن
أبراجه تناطح السماء الغادرة
ههنا…سيبدأ المزاد
لكن!مزاد الرقيق
مزاد الحب والهوى
هنا…سنبصق على قصص
ورحيق العشق
كي تظل كنوز الملك سليمان
هنا…لاشئ يستحق دمعة تذرف
بالأمس،كانت ليالي الأنس في فيننا
تحن لأسمهان
لزمن القياصرة والامبراطوريات
لرقصات الفالس وشتراوس
رقصت معهن …عشقتهن
وفاتنة من وطن الثلج والنار
أيام جدتي المسكينة
أما اليوم …
فوطن الرقص والدولار
تصوب بندقية غدرها
إلى فؤادي المتيم بهواها
لكن البندقية تتحطم
وينزلق رقص الغدر في مستنقع العار
ويظل الشعر يرقص
برفقة حسناوات العالم
وانغام شتراوس
وليالي الأنس في فيننا
* شاعرة وأكاديمية لبنانية مقيمة في باريس – مديرة تحرير دار الكشكول