د. ژینۆ عبدالله
كتاب ((سحر السرد)) للدكتور فائق مصطفى، يتضمن مجموعة مقالات ودراسات نشرت أغلبها في الصُحف والمجلات العراقيّة منذ الثمانينات من القرن الماضي.
يحتوي الكتاب على دراسات عن قصص وروايات الكُتاب والشعراء العراقيين الكُرد أمثال زهدي الداودي ومصطفى صالح كريم والزهاوي والرصافي.
فرواية زهدي الداودي ((وداعا نينوي))، تنتمي إلى رواية الترجمة الذاتيّة أو السيرة الذاتيّة، حسب ما جاء في الكتاب. إن موضوع الرواية هو التّجربة الذاتيّة التي عاشها المؤلف في جامعة الموصل خلال النصف الثاني من السبعينات من القرن الماضي، وهي تبدأ عام 1976 الذي عين فيه في الجامعة وتنتهي عام1979، حيث غادر نينوى إلى أوروبا. تتمثل هذه التّجربة في المحاولات القسريَّة التي جرت لإرغام المؤلف مع أساتذة آخرين على الانتماء إلى حزب البعث الحاكم في العراق آنذاك، لكن المؤلف يصمد أمام الاضطهاد ويخلص نفسه بالهروب إلى خارج الوطن، في حين يتمُّ اغتيال بعض الأساتذة، وإرغام بعض الآخر على الانتماء بأساليب وحشيّة في غاية القسوة والعنف. وفي الرواية حوار كثير إلى جانب السرد والوصف، وهذا الحوار في أغلبه حوار فنيّ يحقق أغراضًا عدة في ما يخص الأحداث والشخصيّات، لكن ما يعيبه تعدد المستويّات اللُّغوية عند الشخصيّة الواحدة، بين العاميّة والفُصحى. وفي ختام الدّراسة، نقرأ إن الرواية سياسيّة بكل معني الكلمة، لأنَّ موضوعها الرئيس ينتهي بشهادة الروائيّ والأكاديميّ العراقي، على ما كان يجري في العراق من قمع واضطهاد للمثقفين والعلماء المتقدمين خلال النصف الثاني من السبعينات من القرن الماضي، لكن هذا الموضوع السياسي لم يحل دون توافر الشروط الفنيّة لجنس الرواية فيها.
أما الكاتب الكُرديّ الآخر الذي تناول الكتاب سرده، فهو القاص والإعلامي مصطفي صالح كريم، في روايته القصيرة ((شهداء قلعة دمدم)) تحت عنوان ((رسالة الماضي إلى الحاضر)) وقد يستند على واقفة تأريخية تعد صفحة مشرقة زاخرة بالبطولة والبسالة والتّضحية في تأريخ الكُرد عام 1608 وهي المعركة التي نشبت بين أبطال حامية قلعة دمدم قرب مدينة (أرمية) بقيادة الأميرخان زعيم عشيرة (برادوست) الكُرديّة، والجيش الإيراني الذي بعثه الشاه عباس لاحتلال القلعة نظرًا لرفض الأميرخان إسكان ثمانية آلاف من الأغراب القادمين من تركيا قرب القلعة.
عدَّ الناقد الرواية من الرواية التأريخية الفنيّة، وذلك لأنَّها نجحت في استغلال حدث تأريخي واعتماده إطارًا لمعالجة قضيّة حيّة من قضايّا المجتمع. والمعروف إنَّ الرواية التأريخية لا تكون فنيّة إلا إذا عنيت بالحاضر بوساطة الماضي، بمعالجته ونقده. فكأنَّ الماضي يبعث برسائل إلى الحاضر محملة بعبر ودروس ودلالات ليستفيد منها في حل وإضاءة طُرقه المعتمة. وهذا ما فعله القاص مصطفي صالح كريم في روايته القصيرة هذه. والرسائل التي يبعثها التأريخ في الرواية، إلى الحاضر، هي:
1- إنَّ الكُرد ذو بأس وشجاعة وإقدام، فهم يستميتون في القتال والصمود دفاعًا عن أرضهم.
2- ليس هناك حواجز وحدود تفصل بين الحُكام والمحكومين، أو بين القادة والجنود، فالكلُّ سواسية في القتال.
3- مشاركة المرأة الرجل في الدفاع والقتال والصمود، فالدفاع والصمود الحقيقيان يتمان بمشاركة الجميع رجالاً ونساء.
4- إنَّ الانكسارات والنكسات في تأريخ الكُرد، لم تحدث بسبب التخاذل والجبن، وإنما حدثت بفعل الخيانة والغش والخديعة.
وفي الكتاب دراستان عن القصة الشعريّة عند كلّ من الزهاوي والرصافي، فالزهاوي كان رائدًا للقصة الشعريّة في الأدب العراقي الحديث والأدب العربي الحديث علي نحو عام، وذلك لأنَّه نظم القصة الشعريّة في الأدب العراقي والعربي الحديث على حد سواء، وأنه نظم القصة الشعريّة في الحقبة نفسها التي ظهرت فيها قصص خليل مطران الشعريّة، إذ ضمت ديوانه ((الكلم المنظوم)) الصادر في عام 1908 مجموعة من القصص، وربما سبق الزهاوي مطران في هذا الميدان لأنَّه في الديوان قصتان، هما ((ذكاء)) و((سلمي المطلقة)) مؤرختان في 1905، ثم صدر ديوان الزهاوي عام 1924 وفيه قسم سماه ((الحديث شجون)) تضمن طائفة من القصص الشعريّة بلغت إحدى عشرة قصة.
أما خصائص قصص الزهاوي الشعرية، فعقدتها بسيطة لا تعقيد فيها، وبناؤها مهلهل لا تماسك فيه، لأنَّ الأحداث لا تبني على أُسُس محكمة وواضحة، وهي تنمو وتتطور على نحو سريع، وتتخلل القصص استطرادات وأوصاف طويلة لا مبرر لها. وشخصيات القصص أغلبها من الطبقات والفئات المسحوقة في المجتمع، وهي تعاني ضروبا مختلفة من الجور والبؤس والحرمان، وتسود حياتهم المرض وأحيانا الجنون، وتنتهي نهاية مأساوية. كذلك البيئة في القصص، ليست لها خصوصية وأقسام محدّدة؛ لأنَّها تتسم بالعموميّة والشموليّة. وأما الغاية التي من أجلها كتب الزهاوي قصصه الشعريّة، فهي إبراز مساوئ ونقائص اجتماعيّة وسياسيّة، ينبه عليها الزهاوي وأدانها، ودعا الحكومة والمجتمع إلى القضاء عليها.
وفي ما يخصُّ قصص الرصافي، يغلب عليها الاتجاه الاجتماعيّ، فهي تجسيد لمشكلات وقضايّا اجتماعيّة كمشكلة الفقر والمرض والطلاق والفتن والحروب. وبين هذه القصص قصتان تاريخيتان هما ((هولاكو والمستعصم)) و((أبودلامة والمستقبل)) تقومان على أحداث تأريخيّة تدور على شخصيّات معروفة، من أجل الدّعوة إلى أفكار معينة. وبناء القصص يشبه بناء قصص الزهاوي من حيث الافتقار إلى التماسك، مع التطور الساذج للحدث، وتدخُّل الشاعر فيه بالتعليقات التي تقطع سياق القصص بالحِكم والمواعظ. وأما شخصيّات القصص فمن الفقراء والمحرومين كالعمال والنساء الأرامل والمطلقات والأطفال اليتامى، فضلاً عن الشاعر الرصافي الذي يكون في أغلب القصص إحدى شخصيّاتها. وأما الشخصيّات في القصص التأريخيّة فهم من الملوك والأمراء والشعراء. وهذه القصص، على الرغم من الضعف البادي على بعض عناصرها -وهذا شيء طبيعي فيها، إذا أخذنا بنظر الاعتبار الزمن الذي ظهرت فيه- تمكن الرصافي من تصوير جوانب مهمة من المجتمع العراقي في الربع الأول من القرن العشرين. وفي الوقت نفسه استطاعت هذه القصص أن تحقق تواصلاً بينها وبين القراء الذين أقبلوا على قراءتها وحفظها وأحدثت فيهم تأثيراً عميقاً. ولعل ذلك عائد إلى إبرازها وتأكيدها جوانب وزوايا قائمة في المجتمع العراقي، ودعوتها إلى القُراء للسخط على الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة الشاذة التي تسببت بهذه المشكلات.
وهكذا يعد الكتاب مصدرًا مهمًا للأدب القصصيّ الكُرديّ المكتوب باللُّغة العربيّة.