يقضي مصطفى (23 سنة) طالب في جامعة بابل، نحو أربع ساعات يومياً في كافيه بمدينة الحلة مركز محافظة بابل (100كم جنوب بغداد) يتابع فيها برفقة أصدقائه منافسات الدوريات الأوربية بكرة القدم ويلعب البليارد ويدخن الأركيلة، ويتبادل حوارات في شؤون خاصة وعامة. تتضاعف تلك الساعات في فترات العطل الصيفية.
“ليس من مكان ترفيهي آخر” يبدد فيه أوقات فراغه الطويلة. مثله مثل غالبية الشباب الباحثين عن أماكن للترفيه بعد ساعات الدراسة أو العمل، ومثل مئات آلاف العاطلين بسبب البطالة التي تصل الى 21% بين فئة الشباب وفق وزارة التخطيط. يقول وهو يمج نفساً عميقاً من أنبوب نركيلته: “لا يوجد سوى هذه الكافيهات ومطاعم الأكلات السريعة.. لا شيء آخر”.
وشهدت أغلب المدن خلال السنوات الأخيرة موجات من افتتاح الكافيهات، حتى بات وجودها يشكل ظاهرة فلا يكاد يخلو حي سكني من أحدها بينما تتزاحم في المناطق التجارية، خاصة مع افتتاح كافيهات بمواصفات خاصة تستقطب العوائل من رجال ونساء فضلا عن شريحة الشباب والفتيات في سن المراهقة.
لكن خلف واجهات الترفيه المفتوحة بلا رقيب حقيقي، والتي يغذيها تحول واضح في السلوكيات المجتمعية وتوجهات استثمارية استهلاكية، تكمن تجاوزات على القوانين وفوضى تسجيل ومراقبة، وعمليات غسيل أموال، كما مساحات مريحة لترويج المخدرات، يقول متخصصون، بقلق.
بين هؤلاء احمد خلف، وهو محامي يتابع الملفات الاستثمارية، يؤشر تزايدا غير مسبوق في افتتاح المقاهي والكافيهات، في ظل ما يصفه “بتلاقي متطلبات السوق والمزاج العام، مع حاجة بعض أصحاب الأموال غير الشرعية لمنافذ تتيح غسل أموالهم، وفي ظل صعوبة الدخول في مشاريع الاستثمار الصناعي أو السكني التي تتطلب اموالاً كبيرة واجراءات معقدة”.
الاستثمار الرائج
تظهر المؤشرات الاقتصادية توجها واضحاً لرؤوس الأموال نحو الاستثمار في مشاريع تقدم خدمات تسوق وترفيه، سواء المجمعات التجارية الكبيرة التي تعرف بـ(المولات) والتي تضم في الغالب مرافق ترفيهية تزدحم بالكافيهات، او المجمعات الأصغر التي تضم محلات تسوق ومطاعم ومقاهي تستقطب ملايين الشباب والتي لا يكاد يخلو حي سكني منها، أو حتى المجمعات السكنية الحديثة التي يحرص أصحاب الكثير منها على ان تضم في طوابقها السفلية أسواقاً وكافيهات.
ذلك التوجه الذي تعززه معدلات بطالة عالية، وصلت في سنة 2022 إلى 16.5% من سكان البلاد البالغ عددهم أكثر من 42 مليون نسمة، والتي تزيد بين فئة الشباب (18-30 عاما) لتصل الى 21% وفق أرقام الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط.
هذا يعني أن لدينا أكثر من 6 مليون عاطل عن العمل!” يقول الخبير الاقتصادي د.غزوان عبد الصمد، ويضيف: “وبما أن غالبيتهم من الشباب، فهذا يعني أنهم يعتمدون على أسرهم، وبما أن نفقاتهم ستكون محدودة، لذا لن يكون أمامهم سوى الكافيهات كأماكن ترفيه وقضاء للوقت”.
وهذا سر تزايد اعداد الكافيهات في عموم العراق وفقاً لعبد الصمد، ولاسيما في ظل تقلص حضور مراكز الشباب والأنشطة الموجهة إليهم عبر وزارات الدولة المعنية، وتركيز المشاريع ذات النفع العام على الجانب الخدمي، وإهمال قطاع الترفيه والسياحة “لذا فالشباب سواءً كانوا عاطلين أم غير عاطلين عن العمل، لن يجدوا خيارات كثيرة أمامهم في مسألة قضاء الوقت سوى الكافيهات الرائجة”.
وتتجنب الدولة منذ عقود رعاية المشاريع التي تستقطب الشباب، سواء ما تعلق منها بالترفيه، او التدريب والتأهيل المهني وتطوير المهارات والهوايات. حيث تغيب المهرجانات والمسابقات والنشاطات والمعارض المختلفة، بينما تلاشى وجود المسارح ودور السينما، كما مؤسسات تطوير القدرات والمهارات.
وتختلف الكافيهاات عن المقاهي الشعبية التي كانت تنتشر في السابق، فهي لا تكتفي بتقديم المشروبات الساخنة والباردة فقط، بل أيضا الأركيلة وأحيانا الأطعمة السريعة والحلويات، فضلا عن ممارسة العاب الطاولة والدمينو وغيرها، مع مرافق ترفيهية كالألعاب الألكترونية أو البليارد وتنس الطاولة، وتتوفر فيها خدمة الأنترنيت، كما تستقطب الفتيات والنساء اضافة الى الشباب والكبار في العمر.
علي المطيري، وهو صاحب كافيه تقع وسط مدينة الحلة، يرى ان الكافيهات باتت ملجأ للشباب. ويرجع سبب تزايد أعدادها الى فرص نجاحها الكبيرة مقارنة بغيرها من المشاريع “بسبب البطالة ولعدم وجود مشاريع حكومية كالمتنزهات العامة المدعومة بمرافق سياحية”.
ويؤكد أن البطالة هي قاسم مشترك بين أغلب زبائنه الذين لا يعرفون اين يقضون اوقاتهم. ويضيف:”لدي قائمة طويلة من الديون، وأتساهل كثيراً مع الشباب في دفعها، لأنني أعلم بأنهم بلا أعمال ويحصلون على المال من أهاليهم”.
ويرى أن انفاق زبائنه المال على الأركيلة أو المشروبات الغازية، أفضل من أن ينفقوها على “شرب الكحول أو المخدرات” بعيدا عن الأعين في أماكن مجهولة.
مشاريع غير مرخصة
في السنوات الخمس الاخيرة، ومع تراجع العنف في مختلف مناطق البلاد، ظهرت الحاجة الى أماكن الترفيه العامة، وفي مدن تضم مئات آلاف البشر لم يكن هناك بديل غير مشاريع الكافيهات، فغزت العشرات منها الأسواق القديمة كما ظهرت في المجمعات التجارية الحديثة لتستقطب الشباب وشرائح مجتمعية أخرى تبحث عن أي متنفس للترفيه وقضاء اوقاتها.
لكن في ظل الفوضى الادارية التي تفرضها الصراعات السياسية وضعف المتابعة وتعطلها الكامل احيانا، ظهرت تجاوزات قانونية في تلك المشاريع، وتشكلت مصادر خطر.
الناشط المدني عيسى العطواني، من محافظة بابل، يشكك بحصول الكثير من الكافيهات على رخص رسمية من أي جهة سواءً البلدية أم الصحة، مما يعني عدم وجود رقابة عليها وفقاً لما يقول: “وهو ما يؤدي إلى انتشار الممنوعات فيها، خصوصاً في المناطق الشعبية اذ يتم أحيانا تقديم الأدوية المخصصة لعلاج الأمراض النفسية من خلال طحنها مع الاركيلة، لتشكل خطراً على الشباب”.
في مدينة الحلة، التي سجلت افتتاح (31) كافيه خلال السنوات الخمس الأخيرة وفقاً لبيانات دائرة الأمن السياحي، هناك أعداد أخرى أكبر لم تسجل، وفق افادة موظفين في القطاع البلدي، قالوا أن العدد الحقيقي أكبر من المسجل بكثير، لأن العديد من الكافيهات شيدت بنحو غير شرعي أو ما اصطلحوا عليه بـ”التجاوز” ولاسيما على ضفاف (شط الحلة) التي تعود ملكية الأرض فيها لبلدية الحلة. وذكروا بأن المنطقة هناك تشهد زخماً كبيراً للكافيهات غير المرخصة.
عدد مقارب من الكافيهات زودتنا به هيئة سياحة النجف اذ سجلت في السنوات الخمس الأخيرة 32 كافيهاً في مدينة النجف. وأوضح لنا قسم التفتيش والمتابعة التابع للهيئة أن المقاهي الشعبية، التي تستقطب أيضا آلاف الشباب، لا يتم تسجيلها لديها، اذ لا تعتبر مرفقاً سياحياً لعدم مطابقتها للمعايير السياحية.
المهندس في بلدية الحلة سلوان الأغا، ذكر بأن “أي نشاط عمراني ترفيهي كان أم تجاري أو سكني أو خدمي على أي أرض سواءً كانت مملوكة لمؤسسات الدولة أو لمواطنين يحتاج الى موافقات من جهات مسؤولة عن تنظيم المدن تابعة لدوائر البلدية”.
وفي حال كانت الأرض مملوكة لمواطن فأن النشاط العمراني تحدده الدولة، أما إذا كانت الأرض زراعية فيُمنع انشاء أي مبنى عليها مهما كان الغرض من إنشائه إلا إذا كان متعلقا بالأرض ذاتها كقاعات الدواجن والحظائر ومنزل للبستاني.
المهندس يشير بذلك إلى أن الغالبية العظمى من الكافيهات التي شيدت في المدينة غير مرخصة، وهي ظاهرة انتشرت في عموم العراق منذ 2003، ماعدا مناطق أقليم كردستان التي تتعامل فيها السلطات هناك مع الأمور المشابهة بحزم أكبر.
ويعني عدم التسجيل عمليا التغافل عن وجودها او عدم متابعة عملها، وبالتالي الجهل بما تقدمه من مشروبات وأطعمة فضلا عن الأراكيل واذا ما كانت تتطابق مع المتطلبات الصحية وقد دخلت بصورة قانونية وخضعت لفحوصات النوعية.
وبخلاف المخالفات المتعلقة بالأرض التي تنشأ فوقها هذه الكافيهات، يعزو موظف في دائرة الضريبة العامة عدم لجوء أصحابها لتسجيلها إلى الرسوم التي يتوجب عليهم دفعها إضافة إلى الضرائب السنوية التي ستترتب عليهم سواءً عن مداخيلهم أو عن عمالهم لدى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية.
كردستان.. ارقام مماثلة ومخالفات
ظاهرة انتشار الكافيهات تشمل مدن إقليم كردستان أيضا وربما بأرقام أعلى، ولذات السبب “البطالة وغياب مراكز تستقطب الشباب للتأهيل والتدريب وتطوير المهارات أو حتى الترفيه”، لكن الاختلاف يكمن في وجود رقابة أكبر على مثل هذه المحلات ومنع عملها دون تراخيص، فيمنع افتتاح أي مرفق سياحي أو ترفيهي دون أخذ موافقات من مديريتي السياحة والصحة والامن الداخلي.
وكما في مدن الوسط والجنوب العراقي، ففي كردستان لا يكاد يخلو حي سكني ولو صغير من الكافيهات، التي تنتشر أيضا بشكل كبير في بعض الأسواق والشوارع المعروفة بمراكز المدن، ففي السليمانية على سبيل المثال سجلت مديرية السياحة افتتاح (269) كافيه بين 2018 و2022.
خارطة انتشار الكافيهات وسط السليمانية
هذا العدد يراه أكرم قادر، الذي يدير منظمة مهتمة بشؤون الشباب، كبيراً ومؤشراً على ارتفاع مستوى البطالة وشحة فرص التطوير للشباب، ويقول: “انعدام فرص العمل ساهم في زيادة أوقات الفراغ لدى الشباب ما زاد من الاقبال على المقاهي والكافيهات وبالتالي زيادة في أعدادها، وهذا أمر طبيعي”.
علي رسول (28 سنة) موظف تحليلات مخبرية، من كركوك، يفضل عدم منح التراخيص للكافيهات وسط الأحياء السكنية والتشديد في دخول غير البالغين اليها، ويبرر ذلك:”كثيراً ما أرى اطفالاً يدخنون دون رقابة من الجهات الأمنية، الى جانب أن أصحاب هذه الأماكن لا يمتنعون عن بيع الاراكيل والسجائر لهم، يزعجني منظرهم وارفض ان تستقبل أماكن مخصصة للبالغين أطفالاً فقط لكسب المال”.
يصمت برهة ثم يتابع باستياء: “بعض الكافيهاات تستثمر فتيات قاصرات للعمل في تقديم الطعام والشراب والاركيلة، يستخدموهن لجذب الشباب وزيادة الاقبال.. يجب فرض عقوبات صارمة على الكافيهات التي تنتهج هذا النهج للحد من استغلال الاطفال”.
تجاوزات وغسيل أموال
حاولنا الحصول على بيانات واضحة عن أعداد الكافيهات المسجلة لدى الجهات الرسمية في العاصمة بغداد التي باتت تضم عشرات المولات والمجمعات التجارية الحديثة، لكننا لم نجد إجابة عن ذلك لدى جهات عديدة راجعناها، وهو أمر يثير الاستغراب خاصة ان تلك المواقع هي اماكن تستقطب شرائح مختلفة وتقدم فيها العديد من المشروبات وأحيانا الأطعمة، وفي ظل تقارير أمنية تشير الى استخدامها كأماكن لترويج المخدرات.
ويعزو موظفون غياب الأرقام الى عدم امتلاك قاعدة بيانات للمرافق السياحية في القطاعين الخاص والعام، وهي سمة الفترة ما بعد العام 2003 على حد تعبير أحدهم.
الى جانب الاستجابة لمتطلبات السوق، يرى العديد ممن تواصلنا معهم لاعطائنا أرقام، أن ظاهرة انتشار الكافيهات باتت ترتبط بعمليات “غسيل الأموال” المنتشرة في البلاد من صفقات الفساد، فأغلبها ولا سيما الكبيرة منها أو التي افتتحت في مناطق متميزة مملوكة لشخصيات نافذة في أحزاب مشتركة بالسلطة.
وفي ظل وجود نافذين يستطيعون افتتاح تلك الكافيهات احيانا دون تسجيلها رسميا، أو دون دفع الرسوم والضرائب المطلوبة، بل وفي مواقع متجاوز عليها، ليتم من خلالها تحويل اموال غير شرعية الى اموال شرعية، يكمن ربما سبب آخر لظاهرة انتشار الكافيهات.
الخبير الأمني عبد الخالق الشاهر وهو ضابط شرطة متقاعد، يعتقد بأن الفساد ركيزة أساسية يستند إليها أصحاب الكافيهات خاصة المتجاوزة منها والتي تعمل بدون رخصة رسمية.
ويقول “لكل مدينة تصميم عمراني، لكن للأسف يتم اختراقه بشكل يومي من قبل أشخاص متنفذين أو تابعين لأحزاب حاكمة عن طريق انشاء مشاريع في أماكن غير مخصصة لها. والذين لا ينتمون الى حزب نافذ يدفعون رشاوى أو يستخدمون نفوذ شخصيات تساعدهم على تجنب التبعات القانونية لتجاوزاتهم على أراض مملوكة لمؤسسات حكومية أو ممارسة العمل بلا رخص الى جانب التغافل عن دفع الرسوم والضرائب”.
تنص اللائحة الخاصة بتعليمات عمل الفنادق والمطاعم والمقاهي الشعبية والاشراف عليها لسنة 1982\ثالثاً\3 على “لا يجوز فتح أي فندق أو مطعم أو مقهى شعبي في أي مكان من أنحاء القطر بعد صدور هذه التعليمات ما لم يستحصل على اجازة العمل أو الاذن المبدئي من رئيس الوحدة الادارية في منطقته”.
كما تنص المادة الأولى من قانون ازالة التجاوزات الواقعة على العقارات العائدة للدولة والبلديات رقم 154 لسنة 2001 على: “يعد تجاوزاً، التصرفات التالية الواقعة على العقارات العائدة للدولة والبلديات ضمن حدود التصاميم الأساسية للمدن دون الحصول على موافقة أصولية:– أولاً – البناء سواء أكان موافقاً أم مخالفاً للتصاميم الاساسية للمدن.ثانياً – استغلال المشيدات. ثالثاً – استغلال الأراضي”.
ويربط الحقوقي علي التميمي شيوع التجاوزات على أراضي الدولة بعدم انفاذ القانون وعدم اتخاذ الاجراءات الرادعة خصوصا ضد الجهات الحزبية، ويضيف “للأموال العامة حرمة وفق المادة 27 من الدستور العراقي، وتعاقب المادة 197 من قانون العقوبات بالإعدام او السجن المؤبد لمن أضر بالأملاك العامة، هذه الجرائم مشهودة يمكن القاء القبض على مرتكبيها مباشرة وفق المادة 102 من قانون الأصول الجزائية ويمكن اتخاذ اجراءات قانونية وقرارات من المحكمة وفق مبدأ الغبن الفاحش عبر المواد من 121 الى 141 من القانون المدني”.
ويكمن الحل حسب رؤية التميمي بتفعيل القانون 154 لسنة 2001 واستخدام القوة لتحقيق الردع وتطبيق القانون. ويشير الى أن رئيس الوزراء محمد السوداني قد وعد مرارا بالقضاء على الفساد المالي والإداري، لافتاً الى ان الملف الخاص بالتجاوز على الاملاك العامة هو الملف الأهم.
مراكز لترويج المخدرات
يقول سردار آلاني، وهو محامي مختص في مجال العنف والمواد المخدرة، ان أخطر مكان لترويج المخدرات وبيعها يتمثل في الكافيهات والجامعات والمعاهد “فهناك تسهُل عملية الترويج والبيع كونها أماكن لتجمع المراهقين الذين يمكن اغراؤهم والايقاع بهم، ولوجود الشباب الجامعيين الذين يحتاجون الى مال لتأمين مصاريفهم الشخصية”.
ضابط شرطة برتبة نقيب في بغداد، رفض الكشف عن اسمه، قال بأن بعض الكافيهات تحولت إلى “بؤر” للترويج للمخدرات، خصوصا “الحبوب المخدرة وأكثرها رواجاً الكرستال”. وقال: “يتم في بداية الأمر إعطاؤها للشباب مجاناً، وبعد اعتيادهم عليها يتم بيعها لهم، وهنالك طرق للترويج للمواد المخدرة من خلال وضعها في الأراكيل”.
ودعا أولياء الأمور إلى الحذر الشديد ومتابعة أبنائهم ومعرفة الأماكن التي يرتادونها لكي “لا يتم التأثير عليهم من قبل عصابات ترويج المخدرات التي تزيد من نشاطها وسعة انتشارها وأصبحت تستخدم طرقاً مختلفة ومبتكرة لترويج وتوزيع المخدرات، مباشرة عبر متعاملين معها أو حتى عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي” وفقاً لما ذكره نقيب الشرطة.
لكن فلاح سعود (23 سنة) خريج جامعي من بغداد، يرفض فكرة التعميم، ويقول بأن “الكافيهات التي تحدث فيها أشياء سيئة مثل بيع المخدرات أو وجود المومسات معروفة ويذهب إليها من يبحث عن مثل هذه الأشياء، وفي المقابل هنالك كافيهات يجتمع فيها الشباب لقضاء اوقات ممتعة بمشاهدة مباريات كرة القدم او ممارسة بعض الألعاب او الحديث عن مشاكلهم وأعمالهم، وهي أفضل بكثير من التواجد في الشارع”.
ويؤكد أن هنالك كافيهات كثيرة يرتادها شباب او عائلات وتجرى فيها الإحتفالات الخاصة، تخضع لرقابة قوية من أصحابها “لذا ليس جميع الكافيهات أماكن مشبوهة”.
ويقول بكثير من الثقة:”لا يمكن القول بأن الكافيهات في المناطق الشعبية فقط تروج للمخدرات، فأنا على علم بكافيهات في مناطق راقية جداً ويرتادها أبناء الطبقة الغنية تروج فيها المخدرات، وإذا كنت أنا المواطن البسيط أعلم بذلك فهذا يعني بكل تأكيد أن الأجهزة الأمنية تعلم هذا أيضاً، فلم لا يغلقونها؟”.
يعد مدير عام المنظمات غير الحكومية في بغداد، أشرف الدهان، أن البطالة و”الكوفي شوب” من أبرز مسببات انتشار المخدرات في العراق. وقال في تصريحات صحفية إنها تمثل مصدر خطر كونها توفر إحدى أدوات التعاطي من خلال الأركيلة، مبينا ان الجهات الرسمية قامت بأكبر عملية إتلاف للمخدرات في تاريخ العراق قبل فترة قصيرة تمثلت بإتلاف 6 أطنان ومئات الآلاف من العقاقير وملايين الحبوب.
وكانت وزارة الداخلية العراقية قد اعلنت في 14 تشرين الثاني 2023 عن القاء القبض على 17249 متهماً بالتورط في تجارة المخدرات خلال العام 2023 بينهم 121 اجنبياً.
مشاريع ناجحة وايجابيات
الخبير الاقتصادي أحمد الحسيني، يرى بأن الكافيهات أصبحت من المشاريع الفردية الناجحة في ظل الإقبال الواسع عليها، نظراً لقلة كلفتها الاقتصادية مقارنة بمشاريع أخرى.
ويقول: “لا تحتاج الكافيه الى رأس مال كبير لذا فهي سهلة التنفيذ من الناحية الاقتصادية، وتعد من المشاريع ذات الدخل الجيد لكثرة مرتاديها وهذا هو سر افتتاح العديد من الكافيهات متجاورة في نطاق مساحة محددة في بعض المناطق كضفاف الأنهار”.
ويعتقد حيدر حسن (26 عاماً) يدرس الماجستير في اللغة الانكليزية ويسكن مدينة النجف، جنوب بغداد، أن توجه الشباب العراقي لارتياد الكافيهات، هو نتيجة لتغير المزاج الشعبي فهناك “نزعة حداثوية مجتمعية لدى الشباب بصورة خاصة أبدلت المقاهي البسيطة بالكافيهات ما ساهم في انتشارها”.
ويضيف: “مراكز الشباب الحكومية القديمة لا تلبي احتياجاتهم ولا تصلح للترفيه بسبب سوء تجهيزها كما أن أغلبها أحيل للاستثمار، أما المساحات الخضراء فلا ترتقي لمرتبة الأماكن الترفيهية لانعدام الخدمات فيها وعلى رأسها الأنترنيت الذي يحتاجه الشباب لإستخدام هواتفهم الذكية”.
ويشير حيدر الى إيجابيات وفرتها الكافيهات علاوة على كونها أماكن ترفيهية: “يلجأ الطلاب إلى بعضها ولاسيما الكبيرة منها وقليلة الضوضاء، لمذاكرة الدروس بنحو جماعي أو فردي وهذا سببه غياب أو قلة المكتبات العامة أو الأماكن الأخرى المخصصة للدراسة، كما أن الكثير من أصحاب الأعمال يلجأون إليها لإنجاز أعمالهم المكتبية، ويفضل الكثيرون اللجوء اليها لعقد اللقاءات الخاصة بإدامة أعمالهم وتنفيذ مشاريعهم”.
الباحثة الاجتماعية ابتسام الشمري، تضيف سببا آخر لانتشار الكافيهات غير البطالة، قائلة ان “التفكك الأسري أسهم في انتشارها، إذ لم يعد الشباب والمراهقون يلتزمون المنازل كالسابق خاصة مع ضعف متابعة أرباب الأسر لأبنائهم”.
يحدد سلمان أحمد، وهو مدرس متقاعد، أسبابا أخرى: “حصل تحول في التوجهات المجتمعية، فلم يعد الشباب يهتمون بالقراءة وتثقيف وتعليم انفسهم، نادرا ما تجد أحدا يحمل كتابا اليوم، سادت فكرة ان تطوير القدرات والمؤهلات غير مهمة للحصول على وظيفة بقدر الواسطة، فاستسلموا للبطالة”.
أحمد يرى انه في ظل التوجهات المجتمعية، نجد أيضا انتشار مراكز الرشاقة والجم والتجميل في المدن الكبيرة على الأقل كما مراكز الترفيه، مع الاقبال الكبير عليها من قبل الفتيات والنساء المهوسات بجمال الوجه والقوام مع اهمال جوانب التثقيف والتعليم، حتى تحول الأمر الى مرض “وفي النهاية قواعد السوق تستجيب للمتطلبات المجتمعية”.
الكافيهات العائلية
إلى جانب وجود كافيهات خاصة بالشباب أو مختلطة، هنالك أخرى خاصة بالعائلات، ويمنع دخول الرجال إليها دون أن ترافقهم نساء، وهي مساحة آمنة للمرأة حسبما تصف عزيزة جانكير (27 سنة) من مدينة الموصل، اذ تفضل قضاء أوقات استراحتها من العمل في كافيه عائلي، على التواجد في مرفق عام مختلط يتعرضن فيه للمضايقات.
توضح السيدة: “النساء يتعرضن للتحرش في الأسواق والمتاجر، لذا يشعرن بالأمان في الكافيهات العائلية التي افتتحت بعد تحرير المدينة من داعش في 2017”.
تتفق معها مروة محمد(24 سنة) وهي طالبة جامعية من بابل، إذ تقول “عائلتي تشعر بأمان أكبر عند خروجي الى كافيه عائلي.. فعليا لا يوجد مكان آخر يمكننا الذهاب دون أن نتعرض لمضايقات”.
تضيف بشيء من الاستغراب:”هذه المدينة التي تضم اكثر من مليوني انسان، بلا أماكن ترفيه او مراكز لتطوير المؤهلات او ممارسة الهوايات، لا وجود لكل ذلك، كما ان تواجد الفتيات في المتنزهات المفتوحة أو مدن الألعاب دون ان يرافقهن أحد من الرجال، يعني تعرضهن للتحرش بنحو اكيد”.
عدم وجود اماكن ترفيه آمنة، يجبر عامر صبري (48 سنة) الذي يعمل نجاراً، على مرافقة زوجته وأبنتيه إلى كافيه عائلي في الجانب الأيسر لمدينة الموصل أيام الجمع والمناسبات، وأحيانا يسمح لهن بالذهاب وحدهن إلى هناك، لكنه يرفض أن يذهب أبنه (17سنة) إلى أي كافيه خاصة بالشباب، لأنه يعتقد بأنها أماكن خطرة.
يقول وهو يقطب حاجبيه:”أبسط ضرر يمكن أن يصيب الشخص في تلك الكافيهات هو ضرر صحي، بسبب دخان الأراكيل”.
يصمت للحظات ثم يتابع:”أُفضل ان يلتقي بزملائه في المنزل، لا نعرف ما يمكن أن يحصل في تلك الأماكن.. ما أعرفه ان الكافيهات تتكدس بالشباب الذين لا يجدون مكانا آخر يتوجهون اليه، وان الحبوب المخدرة تزداد انتشارا، وتلك الأماكن مواقع سهلة للترويج لها”.