تزايد هائل في اعداد المتعاطين، وامتلاء السجون بالمدانين، في ظل قوانين ناقصة واجراءات ضعيفة وغياب مصحات الرعاية واستراتيجية التوعية
خالد (أسم مستعار) عامل بناء في التاسعة عشر من عمره، يسكن جنوبي بغداد، تخلى عن اكمال دراسته في مرحلة المتوسطة لينخرط مبكرا في عالم الرجال ويقف على مساطب العمال منخرطاً بأصعب الأعمال، قبل أن يبتلى كما يقول بتعاطي الحبوب المخدرة منذ سنتين “أصدقاء عرضوها علي مجاناً قبل أن أدمن عليها ولا اطيق دونها”.
يبدو عليه الإرتباك، يتلفت بين حين وآخر كأن هنالك شخصاً ما يطارده، تنقبض ملامحه فجأة ويدخل في لحظات شرود، قبل ان يجمع كلماته ويقول بأنه واع تماماً أن كل ذلك بسبب حبوب الكبتاغون التي يتناولها باستمرار، والكرستال الذي يتعاطاه عندما يكون مجتمعاً مع أصدقائه “هي متوفرة في كل مكان ومتعاطوها يزدادون، هنا في بغداد كما في مدن الجنوب والشمال، فمروجوها يعرضون بضاعتهم بكل ثقة”.
ينهض بتثاقل من مكانه واقفا على قدميه ويشير بيديه الى الهزال الظاهر على جسده “هذا حالي معها، لا أستطيع القيام بشيء دون تناولها، سواءً كنتُ حزيناً أو سعيداً لابد أن تكون الحبوب في جيبي، أصبحت اصرف كل ما اجنيه من مال على شرائها”.
يشتري خالد الحبة الواحدة بثلاثة آلاف دينار وأحيانا بألفين وخمسمئة دينار أو أكثر حسب الموجود “أشتريها سواءً عملت أو لم أعمل، لأن هنالك من يبيعها لي بالدين”.
يؤكد بصوت حاد مرتفع محاولته الإقلاع عما يصفه بالمرض المزمن “أعرف بأن نهاية غير جيدة تنتظرني بسببها، فإن لم أؤذي نفسي أو أحداً من أشقائي أو أصدقائي، سأوذي أشخاصاً آخرين لا أعرفهم… من يبيعون لي الحبوب أحيانا يطلبون مني العمل معهم لكي أحصل على المال وآخذ ما احتاجه من الحبوب بثمنها”.
يشير إلى الزقاق المكتظ بالشبان والصبية: “الكثير من جيراننا الشباب، وحتى البنات يأخذون الحبوب أو يستنشقون الكرستال، قسم منهم لايظهر عليهم شيء، وقسم آخر يتسببون بمشاكل لأنفسهم ولأهاليهم.. أعرف أشخاصا من هنا انتهى التعاطي بهم الى السجن، أحدهم وهو يكبرني ببضع سنوات حوكم بالمؤبد لأنه كان يتاجر بها، وثلاثة آخرون سجنوا باحكام تصل الى عشر سنوات”.
يفكر قليلا ويتابع: “لا أريد أن تكون نهايتي مثلهم، وربما أسوء من ذلك”.
ما يمنع خالد من طلب المساعدة هو خوفه من معاملته كمجرم والزج به في السجن، وفي ذاكرته قصص عديدة لأشخاص عرفهم تم توقيفهم لأنهم مدمنون. هو لا يعرف ان كانت هناك مراكز لعلاج الإدمان يمكن ان توفر له العلاج دون مساءلة. هو يخشى حتى من السؤال عن ذلك.
ظاهرة متفشية
يشهد العراق وفقاً لمصادر رسمية منذ سنوات تفشي غير مسبوق في تعاطي المخدرات وبمختلف مناطق البلاد، بعد أن كان مجرد معبر لها من ايران إلى دول أخرى قبل عقدين من الآن، إذ أصبح اليوم مركزاً وسوقاً رائجة تنشط فيها شبكات واسعة من العصابات المتخصصة وبعضها مدعوم من جهات مسلحة ما يصعب ملاحقتها، كما أن أنواعا من المخدرات باتت تصنع داخل البلاد وفقاً لجهات رسمية.
فقد أعلنت وزارة الداخلية العراقية عبر الناطق بإسمها العميد مقداد الموسوي في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023 عن ضبط 3.5 أطنان من المخدرات فضلاً عن 15 طناً من المؤثرات العقلية، واعتقال 12 ألف متاجر ومتعاطي في عموم البلاد خلال عشرة أشهر فقط.
ووفقاً لمعلومات حصلنا عليها من مصادر خاصة في القضاء العراقي، فأن أكثر من 6000 حكماً قضائي صدر ضد متهمين بقضايا المخدرات في مختلف المحاكم العراقية خلال أحد عشر شهراً من العام 2023.
بينما أعلن منسق التوصيات الدولية في حكومة إقليم كوردستان ديندار زيباري، عن اعتقال 3300 متهماً بتعاطي والمتاجرة بالمواد المخدرة في مناطق اقليم كردستان وحدها، فيما أكدت مصادر أمنية كردية عن ضبط أكثر من 400 كيلوغرام من المواد المخدرة خلال سنة 2023.
هذه الإحصاءات مقلقة بالنسبة للمعنيين في الجهات الرسمية وغير الرسمية، لأنها تعني بأن هنالك أضعافاً من الكميات قد تم تمريرها بالفعل، وان آلافاً من الناشطين في مجال الاتجار بالمخدرات وتهريبها وتصنيعها طلقاء بالفعل، في حين باتت السجون العراقية ومراكز التوقيف تمتلأ في غالبها بمتاجرين ومتعاطين.
ولايكاد يمر يوم دون أن تعلن فيه وزارة الداخلية أو فروعها في المحافظات العراقية الأخرى إضافة الى أقليم كردستان، عن القبض على متهمين بتجارة المخدرات وتعاطيها حتى بلغت نسبة المحكومين والموقوفين في السجون ومراكز التوقيف العراقية بقضايا المخدرات نحو 60% نسبة الى باقي القضايا، حسب رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق، حازم الرديني.
وأكثر أنواع المخدرات رواجا كما يؤكد مسؤولون أمنيون، هي مادة (الكريستال)التي يتراوح سعر الغرام الواحد منها بين 15 إلى 25 ألف دينار عراقي (11,5 إلى 19 دولار)، والـ(كيبتاغون)التي يصل سعر الحبة الواحدة منها إلى نحو دولارين، وغالبية متعاطيها هم من فئة الشباب بين 18 إلى 30 سنة.
ويقول مسؤولون بالداخلية، بأن هذين النوعين منتشران في المناطق الشعبية الفقيرة، وهنالك أنواع أخرى أعلى ثمناً مثل (الحشيشة والأفيون) وسواهما، يتعاطاها المقتدرون مالياً، ولكل نوع من الأنواع متخصصون في الاتجار بها ومناطق وأماكن معينة لترويجها.
وكان وزير الصحة صالح مهدي الحسناوي، قد أعلن في 8/12/2023، اتلاف وزارته ثمانية أطنان من المخدرات و58 مليون قرص مخدر و 31 ألف أمبولة مخدرة و تسعة آلف قنينة.
وبحسب المركز الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى، فان هذه الكمية كانت مخزونة منذ العام 2009 في دائرة الطب العدلي. وترجح مصادر في وزارة الداخلية أن تبلغ حصيلة الكميات المصادرة من المخدرات خلال سنة 2023، أكثر من مجموع الكميات التي تم اتلافها.
وفي اقليم كردستان اعلنت السلطات في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر، عن تفكيك عصابة دولية تتاجر بالمخدرات حاول أفرادها “بيع عشرات الكيلوغرامات في محافظة السليمانية”. وقال اللواء احمد الزركاني مدير عام شؤون المخدرات بوزارة الداخلية العراقية، خلال مؤتمر صحفي، أنه بالتنسيق مع مؤسسة أمن إقليم كردستان تم القاء القبض على ثلاثة تجار مخدرات بحوزتهم 51 كيلوغراماً من مادة الكريستال.فيما قال العقيد سلام عبد الخالق المتحدث الرسمي باسم أمن الإقليم، أنه “تم خلال العام الحالي ضبط نحو 300 كيلو غرام من المواد المخدرة في عموم المناطق”، مشيرا الى ان التنسيق بين الأجهزة الأمنية في الاقليم وبغداد بشأن المخدرات في أعلى مستوياته.
المشكلة الأخطر في البلاد
وزير الداخلية عبد الأمير الشمري، وصف خلال مؤتمر مكافحة المخدرات، الذي عقده مكتب التوصيات الدولية، في أربيل يوم 15 تشرين الأول/أكتوبر2023، ظاهرة انتشار المخدرات في العراق بأنها آفة وهي “من أخطر المشكلات التي تهدد كيان الدولة العراقية”.
ودعا المسؤولين المعنيين بحفظ الأمن الداخلي إلى تكثيف اللقاءات والاجتماعات للتحاور معا من أجل وضع الحلول العاجلة لظاهرة المخدرات التي قال بأنها تستهدف الشباب في العراق بالدرجة الأساس.
وفي ذات المؤتمر، حذر رئيس وزراء حكومة أقليم كردستان مسرور بارزاني، من مخاطر المخدرات على المجتمع في الإقليم، وأكد بان معدلات الإتجار بها وتعاطيها آخذة بالإرتفاع.
وعن سبب انتشارها في إقليم كردستان قال البارزاني “المافيا والمتاجرين بالمخدرات يستغلون الموقع الجغرافي لكردستان لتهريبها إلى أماكن أخرى؛ ما أدى إلى زيادة عدد المدمنين في الإقليم”.
واتهم رئيس وزراء الإقليم، مجاميع مسلحة لم يسمها، بأنها جزء من شبكات الاتجار بالمخدرات، وأنها تستغل ثغرات أمنية في مناطق يتنازع الأقليم على ملكيتها مع حكومة المركز، وأكد حاجة الأقليم الى المساعدة اللوجستية والمشورة من مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات، إضافة إلى تطوير قدرات القضاء والمحققين في الأقليم، ويعني بذلك في مجال مكافحة المخدرات.
وكان مجلس النواب العراقي قد شرع قانون المخدرات والمؤثرات العقلية رقم 50 لسنة 2017، ضم 51 مادة، اثر دخول العراق في معاهدات دولية عديدة لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية، ومع الإرتفاع الكبير في أنشطة العصابات الإجرامية المتخصصة بتهريب وترويج المخدرات في مختلف أنحاء البلاد، وحتى زراعة بعض انوعها.
المادة الثالثة منه، نصت على تأسيس هيئة تابعة لوزارة الصحة باسم الهيئة الوطنية العليا لشؤون المخدرات والمؤثرات العقلية، مهمتها وضع سياسة عامة لإستيراد أي نوع من المخدرات والمؤثرات العقلية والسلائف الكيمياوية وتصديرها.
وأيضاً وضع استراتيجية وطنية لمكافحة الإتجار غير المشروع بالمخدرات وسوء استعمال المؤثرات العقلية والسلائف الكيميائية، واتخاذ الإجراءات اللازمة لمكافحتها وفقاً للمنهج العلمي والإصلاحي والعلاجي للمدمنين.
وفرض القانون عقوبات تراوحت بين الحبس البسيط وصولا إلى الإعدام، بحق المروجين والمتاجرين والمتعاطين ومهربي المخدرات، وخصصت المادة 39 لمعالجة المدمنين، في مؤسسة صحية خاصة والزمتهم بمراجعة العيادات النفسية.
أما في أقليم كردستان الذي يخضع لإدارة شبه مستقلة، فقد أصدر البرلمان هناك، القانون رقم (1)لسنة 2020 قانون مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية في إقليم كردستان- العراق، وضم 50 مادة، فرض كذلك عقوبات تراوحت بين الحبس والاعدام بحق المتاجرين والمروجين والمتعاطين للمخدرات.
المحامي محمد ياسين صلاح، يقول بأن لديه تحفظات على قانون المخدرات العراقي لأن فيه ثغرات عديدة، وصدر بنحو متسرع، على حد قوله، إذ يشير إلى أن القانون فرق بين التجار والمروجين والناقلين في العقوبة، ويرى بأنه يتوجب مساواتها لأنهم مشتركون في ذات الجرم، وتترتب على ما يقومون به ذات النتائج مثل “ترويج المخدرات والتداعيات التي تنجم عن ذلك”.
ويضيف: “كما لايجوز أن يغفل القانون عن إنشاء مراكز توقيف وسجون خاصة بالمتهمين أو المحكومين بقضايا المخدرات، فهم الآن يوقفون أو يسجنون مع آخرين لاعلاقة لهم بالمخدرات، فيتورط السجناء بالتعاطي ويخرجون ليصبحوا أعضاء في عصابات المخدرات او مدمنين لها”، مشدداً على عزل المتهمين والمدانين بالمخدرات عن غيرهم حتى يتم الحد من ضررهم قدر الإمكان.
وكانت تقارير صحفية قد تحدثت عن وجود نقاش جاد في مجلس النواب العراقي لإجراء تعديلات على قانون المخدرات والمؤثرات العقلية رقم 50 لسنة 2017 ونقلت تصريحات عن عضو لجنة مكافحة المخدرات البرلمانية النائب ياسر الحسيني، في أيلول/سبتمبر2023 أن التعديلات ستتركز على تشديد بعض العقوبات لتصل إلى الإعدام.
ووضع مادة قانونية تمثل رسالة تطمين للمتعاطين بأنهم لن يتم تجريمهم حين يبدأون بتلقي العلاج، وأن بوسعهم العودة إلى حياتهم الطبيعية. ودعوة وزارة الداخلية لإنشاء سجون خاصة بالمتهمين بتجارة المخدرات أو عزلهم عن بقية المتهمين من أجل “تفادي انتشار آفة الإدمان والترويج لها” ولم يحدد عضو اللجنة عن الوقت الذي ستتم فيه قراءة التعديلات الجديدة على قانون المخدرات.
ويبدو أن سقف المواجهة الحكومية للمخدرات آخذ بالإرتفاع في العراق، خصوصاً بعد أن أفادت مصادر امنية، عن قرب الإعلان عن تشكيل جهاز لمكافحة المخدرات، على غرار جهاز مكافحة الإرهاب. وهذا يعد تماشياً مع ما تظهره عصابات المخدرات من قوة فعلية على الأرض، إذ أن بعضها مسلح بنحو احترافي، وتفرض بالقوة سطوتها على المناطق التي تنشط فيها ولا سيما المتخصصة بتهريب المخدرات.
وتسجل العديد من مناطق البلاد سواء في الجنوب أو الوسط او الشمال وبشكل مستمر مواجهات مسلحة بين الشرطة وتجار المخدرات. ففي 19 تشرين الأول/ اكتوبر، ذكرت مديرية شؤون المخدرات، إنها قتلت أحد أخطر تجّار المخدرات الملقب بـ“حناية”، في جانب الرصافة من بغداد، بعد قيامه بفتح النار على عناصر قوة المديرية التي كانت قد نصبت كمين للقبض عليه.
إجراءات متأخرة
لمواجهة تفشي المواد المخدرة في صفوف افراد الاجهزة الأمنية والتي تمثل خطر مضاعف، قررت هيئة الرأي بوزارة الداخلية، التي يرأسها الوزير عبد الأمير الشمري، في 16تشرين الثاني/2023، إلزام المتقدمين للحصول على إجازتي قيادة السيارة (السوق) وحمل السلاح، الخضوع لفحص المخدرات، وذلك بعد قرار كانت قد أصدرته الوزارة في مارس/آذار2023، بإجراء فحص طبي مفاجئ لمنتسبيها لغرض الكشف عن حالات تعاطي المخدرات بينهم.
البعض يرى بأن هذه الإجراءات مهمة، لأنها تشمل قائدي المركبات في الشوارع وحاملي الأسلحة وأيضاً المسؤولين عن حفظ الأمن الداخلي، بمعنى أنهم على تماس مباشر مع حياة الناس اليومية، لكنهم يرون في ذات الوقت بأنها متأخرة كثيراً، وتحتاج عملية مواجهة المخدرات إلى قرارات مواكبة من وزارات أخرى.
من بين هؤلاء، الباحث في الشأن الاجتماعي د. وعد سامي نوار، إذ يرى بأن ظاهرة المخدرات متفشية منذ سنوات في العراق، وامتلأت السجون بتجارها ومروجيها ومتعاطيها، وتزايدت اعداد المدمنين في مختلف أنحاء البلاد لدرجة انها وصلت الى المدارس، على حد تعبيره.
ويقول ان ذلك يتطلب القيام بحملة وطنية كبرى لمكافحة المخدرات “تبدأ بفرض رقابة صارمة على الحدود، ومتابعة مناطق تواجد الشباب حيث يركز المروجون نشاطهم مثل الكافيهات، وتنفيذ انشطة خاصة في المدارس والجامعات، مع تخصيص مراكز علاج وتأهيل للمدمنين في جميع المحافظات وبقدرة سريرية كافية، بدلاً من الزج بهم في السجون”.
استهداف الشباب
مجلس القضاء العراقي أكد بأن المخدرات أصبحت ظاهرة متفشية بين الشباب ومن كلا الجنسين، وذلك في بيان صدر عنه في أيار/مايو2021 ، تضمن تصريحا لقاضي تحقيق محكمة المسيب نبيل الطائي، قال فيه بأن نسبة الأدمان بين الشباب قد تصل إلى 50% “لكن هذا الأمر غير مكتشف بنحو رسمي”.
ويشير إلى أن الاشخاص الذين يعملون بتجارة وترويج المخدرات متواجدون في جميع المناطق، وأن “70% منهم متواجدون في الأحياء الفقيرة والمناطق التي تكثر فيها البطالة وغيرها من المشاكل الاجتماعية”.
ولكن لماذا تنتشر المخدرات بين الشباب في العراق، ويزداد أثرها في مناطق البلاد الجنوبية؟ تجيب عن ذلك، الباحثة المتخصص في الشأن الاجتماعي، فادية عبيد، بكلمة واحدة هي :”الفقر”، ثم توضح:”المناطق جنوبي العراق منكوبة بالفقر المدقع، ولوقوعها بين إيران المصدر الأكبر للمخدرات الداخلة للعراق، والسعودية التي تعد المستهلك الرئيسي في المنطقة، وعندما تزعزع الأمن في العراق، بدأ التجار والمروجون بالتركيز على المناطق الجنوبية، التي يسود فيها الإحباط بين الشباب بسبب قلة فرص العمل وارتفاع مستويات البطالة”.
هي تعتقد إلى جانب الفقر، بأن فساد المؤسسة الحكومية، وتدهور الأمن في البلاد بسبب نشاط الجماعات المسلحة بين 2003 و2017، جعلت الساحة مفتوحة للعصابات الإجرامية المحلية أو العابرة للحدود، وانها قامت بإستغلال كل السبل المتاحة للحصول على قاعدة من المدمنين تعتمد عليها في تسويق المخدرات، “كوسائل التواصل الاجتماعي، الزيارات والمناسبات الدينية، ومراكز تجمع الشباب كالكافيهات، وهذه الأخيرة هي الأكثر استهدافاً”.
وترى فادية أن على الحكومة العراقية والجهات المختصة، “بدلاً من الإعلان عن أعداد الموقوفين بتهم تتعلق بالمخدرات والتباهي بالكميات التي تمت مصادرتها او اتلافها، أن تركز على حل المشاكل الرئيسية التي تؤدي الى رواج المخدرات”.
وذلك من خلال العمل على تحسين الواقع المعاشي للفرد وتحديداً الشباب في مناطق جنوبي العراق، وعدت ذلك الحل الأول لتدارك ظاهرة تفشي المخدرات المتزايدة، على أن يصاحب ذلك وفقا لما تراه، حملة وطنية توعوية لبيان مخاطر المخدرات على الأسر والمجتمع بنحو عام، تشارك فيها المؤسسات الرسمية كوزارات التعليم العالي والتربية والصحة والثقافة والعمل والشؤون الاجتماعية بالتعاون مع المؤسسة الدينية.
الفقر والتدهور الأمني
هنالك في العراق من يعتقد بأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت السبب الرئيس في نشوء ظاهرة المخدرات في العراق، وذلك من خلال قرار الحاكم المدني بول بريمر، الذي نصبته في 2003 بعد اسقاطها النظام السابق، الذي ألغى بموجبه التشكيلات العسكرية العراقية وقوى الأمني الداخلي، ومن ضمنها حرس الحدود، فأصبح الدخول الى العراق متاحاً عبر ستة دول مجاورة.
ضابط الجيش المتقاعد برتبة عقيد نجم موفق، من الذين يؤمنون بان خطوة بريمر تلك، كانت سبباً أيضاً في دخول مجاميع مسلحة زعزعت الأمن الداخلي على مدى أكثر من أربعة عشر سنة، من بينها القاعدة وانصار الإسلام ومن ثم داعش.
ويقول بان تلك المجاميع المسلحة إستخدمت كل الأساليب لتمويل نفسها “سرقوا النفط من أنابيب التصدير، فرضوا اتاوات على المواطنين وعلى الحكومات المحلية، واستظهروا وهربوا الآثار، وأيضاً هربوا المخدرات عبر الحدود المتعددة المفتوحة على مصراعيها إلى داخل البلاد”.
كما أن استمرار هذه المجاميع المسلحة في أنشطتها حسب رؤية العقيد نجم، أنهكت قوى الأمن العراقية الناشئة ومتعددت الولاءات، لتتشكل في ضوء ذلك، عصابات إجرامية عابرة للحدود، بعضها مرتبط بميليشيات مسلحة تدعمها وتوفر لها الحماية “فباتت تعتمد لتمويل نفسها على تجارة المخدرات” يؤكد الضابط المتقاعد.
في دراسة مشتركة انجزها د. نصيف جاسم عاتي، من جامعة ميسان ونعيم عبد الرضا حسان من وزارة الشؤون الاجتماعية، عن متعاطي المخدرات، شملت 100 نزيلاً في سجن العمارة المركزي بالمحافظة، من المحكومين بأحكام مختلفة بعد إدانتهم بقضايا متعلقة بالإتجار والتعاط، تم التوصل إلى أن تعاطي المخدرات أضحت مشكلة لدى فئة الشباب من الفقراء ومحدودي التعليم.
وأظهرت الدراسة أن غالبية المتعاطين هم من الشباب العاطلين عن العمل وبلغت نسبتهم 46% من الموقوفين، وأن 55% منهم ينتمون إلى أسر فقيرة، وأيضاً من ذوي التعليم المتدني، وان أكثر مادة مخدرة يتم استخدامها هي (الكريستال).
وكانت وزارة التخطيط قد أعلنت إرتفاع نسبة الفقر في جنوبي العراق مقارنة بالأجزاء الأخرى، وقدرتها في محافظتي ميسان وذي قار بـ45% و 48%، وهما من بين المحافظات التي تنتشر فيها المخدرات بنحو لافت وفقاً لمسؤولين أمنيين.
المحامي أ. وليد، من بغداد، يقول بناءً على توليه قضايا لصالح متهمين بالمخدرات، أن غالبيتها تولاها بالانتداب، أي احالتها اليه المحكمة مقابل أجر محدد وفقاً للقانون تدفع من خزينتها، لأن المتهم لايملك أجور المحاماة.
ويلفت بذلك إلى أن اغلب المتهمين بقضايا المخدرات هم من الفقراء المعدمين. ويقول كذلك، بانه لاحظ أن تجار ومروجي المخدرات المتهمين والمدانين في المحاكم، كانوا حريصين على إيصال المخدرات الى المناطق التي تزيد فيها نسبة الفقر.
وذكر بأن التجار عادة لايتعاطون المخدرات وأن المروجين هم من المتعاطين في كثير من الأحيان، ويعيشون في مناطق فقيرة “يعتمد عليهم التجار لأنهم الأكثر قدرة على التوغل في تلك المناطق وتوزيع المخدرات فيها، بتخصيص أماكن يطلق عليها الأوكار وأسماء أخرى، يجتمع فيها المتعاطون، وفي كل مرة تكون هنالك وجوه جديدة حاضرة لشبان عاطلين ويائسين”.
ويضيف إلى ذلك، أن الفقر وتعاطي المخدرات، تسببا بإرتفاع معدلات الجريمة إلى نحو غير مسبوق في العراق، وظهور جرائم قال بانها لم تكن معروفة في أوقات سابقة، مثل “زنا المحارم، وقتل أفراد العائلة والانتحار وغير ذلك”.
الكاتب والصحفي علي حسين، انتقد في مقال له مجلس النواب العراقي لأنه يناقش قوانين يرى بأنها أقل أهمية من مشكلة المخدرات، مثل قانون البغاء، ويقول:”هذا البرلمان مشغول البال بالجندر وأصحابه، لكنه يصمت ويضع رأسه في الرمل وهو يقرأ التقارير التي تؤكد أن العراق وبفضل قوانين برلماننا الشجاع أصبح على قائمة الدول الأكثر تعاطياً للمخدرات ولا ننسى أيضاً الأكثر نهباً للمال العام”.
ويتساءل:” مئات التقارير التي تحذر من خطر انتشار المخدرات في العراق، فماذا حدث؟.. لا شيء في هذه الدولة التي تنتفض أحيانا لحفلة غنائية، لكنها تصمت، عندما يتعلق الأمر بجرائم قتل وتعذيب النساء”.
يقول الناشط المدني ايوب عمر، ان العراق الذي دخل حربا شاملة امتدت لـ15 عاما ضد التنظيمات الارهابية كداعش والقاعدة قبل ان ينتصر فيها، سيحتاج الى ضعف ذلك الزمن، والى جهد حكومي ومجتمعي اكبر وارادة وحزم وقوانين ومؤسسات رعاية ومتابعة لينتصر في حربه ضد المخدرات، حيث تتحد عوامل الفقر والأمية والفساد ومصالح شبكات الجريمة مع اطراف نافذة في تعقيد تلك الحرب وربما خسارتها.