على مدى أكثر من نصف قرن، بقيت توصيفات عالم الاجتماع علي الوردي للشخصية العراقية هي السائدة مثل نصوص مقدسة لا يمكن الطعن بها أو مخالفتها، ومنها قوله بالازدواجية التي وسم بها تلك الشخصية فأصبحت كأنها حقيقة غير قابلة للطعن والتشكيك، مع أن الرجل لم يقل يوماً بأن أحكامه قطعية، إنما كان يشير صراحة إلى إمكانية تغيير آرائه إن ظهرت له حقائق ومعلومات جديدة، وذلك من طباع العلماء وتواضعهم ويقينهم بمحدودية المعرفة الانسانية. ولو جاءت أحكام الوردي في دراسات سوسيولوجية باردة لما انتبه اليها أحد من الناس، ولمرت حتى على الأوساط الاكاديمية مرور الكرام، لكنه بما امتلكه من أسلوب بسيط ولغة مرنة وروح طريفة ساخرة، تمكن أن يتسيد حقبة زمنية طويلة على غيره من الأكاديميين والباحثين في مجال تخصصه، حتى أصبح بحق أباً لعلم الاجتماع العراقي – إن صحت التسمية – من دون منازع.
في كتابه « ثقافة التصلب .. منظور جديد لفهم المجتمع العراقي» الصادر عن دار الذاكرة للنشر والتوزيع يتصدى الباحث في الشأن العراقي منقذ داغر ومعه السيدة ميشيل كيلفاند من جامعة ستانفورد الأميركية أستاذة إدارة الثقافات المتعددة والحائزة على جوائز عديدة في مجالات علم النفس والعلوم السلوكية، للقيام بهذه المهمة غير المعتادة، تفنيد رأي الوردي في ازدواجية الشخصية العراقية، على الرغم من اعجابه بما قام به الوردي من جهود كبيرة في دراساته لطبيعة المجتمع العراقي . ولأن داغر بحكم تخصصه وميدان عمله في الإدارة العامة واستطلاعات الرأي العام يعتمد التوصيفات المستمدة من الأرقام والحقائق العلمية، ومنها أول استطلاع علمي شامل للرأي العام في العراق أجراه فريقه البحثي عام 2003 كشف فيه من خلال مقابلات زادت على المليون ونصف مقابلة مع مواطنين عراقيين عن حقائق جديدة بخصوص الكثير من المفاهيم الشائعة عن المجتمع والشخصية العراقية، مثل ازدواجية الشخصية والطائفية والقبلية وعدم المرونة التي تتسم بها تلك الشخصية بحسب ما هو شائع عنها. وهو على الرغم من شغفه بكتابات الوردي القادرة على تفسير الظواهر الاجتماعية في المجتمع العراقي بلغة بسيطة، فإن علامات استفهام كانت تدور في ذهنه عن صحة المنهج العلمي في تحليله الاجتماعي كما يقول « فقد كنتُ دوماً – كباحث- أجد صعوبة في تقبل التعميمات الاجتماعية بخاصة حينما تفتقد الى أدلة رقمية تجريبية، لقد كنتُ أتضايق حين أسمع إن العراقي مزدوج الشخصية مثلاً، ليس لأن ذلك لا يليق بالعراقي أو تحيزاً لانتمائي، بل لصعوبة تقبلي – علمياً – لفكرة التعميم اعتماداً على الملاحظات الشخصية». ويفسر الكتاب بعض الظواهر الاجتماعية السائدة في المجتمع العراقي، تفسيراً علمياً «بدلاً من شيطنة المجتمع العراقي وجلد الذات العراقية والثقافة المجتمعية السائدة في العراق، كما يبتعد عن الأحكام المسبقة التي ألصقت تلك الظواهر بشخصية العراقي في الأدبيات والمنتديات ووسائل التواصل العامة، ذلك أن كل الأسباب التي ساقها الوردي لتفسير ازدواج الشخصية لدى العراقي لا تبدو كافية لتفسير ما يحصل للعراقيين حينما يتناقضون في آرائهم وسلوكياتهم في مواقف مختلفة».
والخلاصة أن ازدواج الشخصية ظاهرة اجتماعية تحدث لدى كثير من الناس في كل المجتمعات البشرية بسبب الصراع الثقافي الذي يمكن أن تعيشه تلك المجتمعات، وهي ليست مرضاً نفسياً تعاني منه الشخصية العراقية لوحدها كما حاول الوردي ترسيخه في اذهان الجمهور والباحثين الاجتماعيين الذين ساروا على منواله، اعجاباً باسلوبه البسيط الذي يتناغم معه عموم القراء.