المسرى .. متابعات
يؤكد باحثون سياسيون وصناع راي مجتمعي ان من نماذج العلاقة الفاعلة المركبة مع الولايات المتحدة، هو بلا ريب الأنموذج الألماني، الذي خرج في ظرف ربع قرن فقط من ركام الهاوية إلى قوّة ما بعد الهزيمة، وراح ينافس على الاقتصاد الثالث عالمياً.
ففي أيار 1945م عند هزيمة ألمانيا لم تكن هناك دولة أو إدارة أو حدود، فقد انهار الاقتصاد وخسرت ألمانيا 60 – 90 بالمئة من رأسمالها الثابت، وسحق طيران الحلفاء بالقنابل مدنها الكبرى، وهُدم (3) ملايين مسكناً، وقُتل 20 بالمئة من السكان، وفي شهر آب 1945م قُسّمت ألمانيا إلى أربع مناطق وفق اتفاقية بوتسدام بين الحلفاء المنتصرين، لتستقرّ مساحة ألمانيا الغربية عند ما يساوي نصف فرنسا، بعد أن فقدت بفعل تجزئتها إلى دولتين غربية وشرقية، نحو 48 بالمئة من مساحتها قبل الحرب.
يرون ان قرار العواصم المنتصرة هو “تدجين ألمانيا” حتى لا تعود قوّتها فتشعل حرباً جديدة، كما فعلت ذلك في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقد بلغت خطط التدجين التي قادتها أميركا، حدّ التفكير بـ”تعقيم” الرجال للحدّ من النسل، فضلاً عن تحويلها إلى بلد زراعي متخلف يزرع ويأكل وحسب.
وعملياً سارت الخطط الأميركية كما تحدّث عنها وزير الخزانة يومذاك مورغنتار، بل الرئيس فرانكلين روزفلت نفسه وجهر بها قبل نهاية الحرب وقُبيل وفاته؛ عبر حذف البنية الصناعية ولاسيّما الصناعات الحديدية والميكانيكية والكيميائية، للحؤول دون نموّ قوّتها العسكرية مجدّداً. بالإضافة إلى التقسيم وتسريح الجيش وحظر صناعات البنية التحتية، سرق الغرب – ولاسيّما أميركا – العلماء الألمان والطاقات العلمية الألمانية خاصةً في الجانب العسكري، ونُقل أغلبهم إلى الولايات المتحدة. وفي عام 1948م، أُلغيت العملة الألمانية القديمة (الرايخشمارك) واستُبدلت بعملة جديدة مرتبطة بالدولار الأميركي، وقد بلغ البؤس في الحياة اليومية للإنسان الألماني حداً مريعاً، وهو يعيش متطلبات هذه الحياة في حدود ما تسمح به بطاقة التغذية (التموينية في المثال العراقي).
لفت المحللون والمراقبون للشأن الألماني الى ان الإنسان الألماني لم يستسلم لقدره، فبدأ استعادة روح التضامن القومي وحشد فاعلية العمل الجماعي، والإصرار على تحقيق الإنجاز، من نقطة صفرية تمثّلت بجمع الأنقاض ومخلفات الحروب، بعد أن استأذنوا سلطات الحلفاء بذلك!، حيث لم تعاند ألمانيا قدرها وتصرّ على العسكرة وابتعاث عظمتها العسكرية الغابرة، بالمقاومة وهدر طاقاتها الإنسانية وما شابه، بل تسللت إلى النهضة والعالمية بالتنمية والاقتصاد تماماً كما فعلت اليابان، لتعظّم ناتجها القومي إلى معدلات غير مسبوقة، وتتناصف مع اليابان بعد ربع قرن فقط، مصطلح “المعجزة الاقتصادية”.
فيتنام: المثال المدهش
ألمانيا منذ الطور البروسي، وجهود آتو فون بسمارك العظيم لتوحيد ولاياتها وتأسيس الإمبراطورية الألمانية أو الرايخ الثاني، إبّان رئاسته الطويلة للوزراء (1862 – 1890م) هي دولة غربية واقتصاد تحوّل من الإقطاع إلى الرأسمالية، ومن ثمّ فهي كيان صلب في المنظومة الغربية، بل ربما كانت القوّة الأصلب في هذه المنظومة بشقّها الأوروبي.
ولا يمكن مقارنة اليابان بألمانيا، فهي من محيط ستراتيجي منافس للمنظومة الغربية بشقيها الأوروبي والأميركي، هو آسيا. لكن مع ذلك لم تبلغ تناقضات العلاقة بين اليابان وأميركا، ذلك القدر من التناقض بين فيتنام وأميركا. فقصة علاقة الحرب والدمار والدم معروفة بين أميركا وفيتنام، دامت فصولها عشرين عاماً (1955 – 1975م) بلغت خسائر أميركا (58) ألف قتيل وأكثر من ربع مليون جريح، وأنفقت فيها (168) مليار دولار (ما يزيد على 1000 مليار بقيمة اليوم). في حين بلغت خسائر فيتنام مليون إنسان في أقلّ التقديرات، ونحو (4) ملايين في بعضها الآخر؛ لتكون واحدة من أعظم قصص الحروب الإقليمية المدمّرة للعمران والإنسان، إبّان القرن العشرين.
العلاقة اليوم بين الطرفين ستراتيجية، تخطّت بأبعادها السياسية والاقتصادية وحتى الأمنية والعسكرية، كلّ تعقيدات الماضي. ولم يتحقّق شيء من ذلك بالشعار والمقولات المستوردة الجاهزة، بل بالمراجعة والعمل المضني، إذ أصبحت الشراكة الاقتصادية الآن بين فيتنام وأميركا من أكبر الشراكات. على سبيل المثال من مجموع صادرات فيتنام عام 2021م، البالغة (336,25) مليار دولار، استحوذت أميركا على نسبة بلغت (28,63%) مقابل الصين (16,65%) والاتحاد الأوروبي (11,93%) وهكذا. والغريب المدهش في الصادرات الفيتنامية إلى الأسواق الأميركية؛ امتدادها على طيف واسع يبدأ من الإلكترونيات والصلب والمنسوجات ومنتجات النقل، ويمتدّ إلى الأحذية والمنتجات الخشبية والمأكولات البحرية والزيوت، لينتهي عند الفلفل والأرز والقهوة.
ويروون مثالا ان الدبلوماسي الأميركي العريق في فيتنام تيد أوسيوس وأهمّ سفراء أميركا في فيتنام؛ لخص العلاقة المعقدة الملتبسة والمركبة بين الطرفين، وكيف تحوّلت من الدم والعداء، إلى التعاون من بوابة الاقتصاد ثمّ الأبعاد الستراتيجية؛ برؤية أصدرها في كتاب، حمل عنوان: “لايوجد شيء مستحيل.
اتفاقية الإطار الستراتيجي