المسرى..
إعداد: كديانو عليكو
تعتبر الاغاني الريفية العراقية جزءا من تراث وثقافة العراق القديم ببساطتها واصالتها، وهي شاهد تاريخي ومترجم لأحداث وأوجاع الناس، وراصد للحياة الاجتماعية والاقتصادية خلال حقب زمنية كثيرة منذ بداياته قبل سنين طويلة وحتى اليوم، إلا انه لا تزال أعداد لا تحصى من تلك الاغاني لأشهر واهم المطربين السابقين أمثال حضيري ابو عزيز وداخل حسن وناصر حكيم ووحيدة خليل تحتل مكانها الجميل في الذاكرة الجمعية العراقية، وبسبب غياب الاهتمام بهذا النوع من الغناء المفعم بالبساطة والنغم الجميل، هناك مخاوف من زواله.
وهناك دعوات الى اعادة تسليط الضوء على منجز الرواد من مطربي الريف الذين شكلوا ظاهرة في الطرب العراقي من خلال تنظيم مهرجانات وفتح معاهد ومراكز تثقف الشباب وتعلمهم على أداء أطوار ومواويل الغناء الريفي خوفا من انقراضه.
أصول الاغنية الريفية
تقول الحكمة السومرية المكتوبة بالخط المسماري على لوح الطين: “حيث ما تغمر المياه الأرض ينمو الخير وتخرج أجنحة السعادة إلى الوجود”. هكذا يتجلى الإرث الحضاري للجنوب العراقي الذي شيدت على أرضه أهم الحضارات البشرية مثل السومرية والبابلية والاكدية. فقد ظل الغناء الريفي في جنوب العراق متأثرا بالبيئة التي احتضنته بسهلها وخصوبة أرضها والأنهار التي ارتوت منها .
أما في البصرة ملتقى نهري دجلة والفرات اللذين يشكلان شط العرب فتعد من المناطق الأكثر خصوبة في العالم، لذا تجد الصورة والمفردة الشعرية في الأغنية الجنوبية ليست كمثيلتها في المناطق الأخرى. تحت تأثير هذا التكوين الطبيعي والبيئي تكيفت أصوات المغنين بالفطرة لتأتي منسجمة مع إيقاع الحياة العام ومنسجمة نغميا مع أصوات الطبيعة المائية الخضراء.
الارث الموسيقي
إما الإرث الموسيقي للمنطقة فقد تجلى باكتشاف أول الآلات الموسيقية مثل القيثارة في الحضارة السومرية ( أكثر من 7 آلاف سنة ) والتي تعد اقدم آلة موسيقية وترية عرفها الإنسان وآلة العود في الحضارة الاكدية وهي أول آلة موسيقية ذات ذراع عرفها الإنسان (4500 سنة ) .
تعد المطبج والناي أهم الآلات التي اعتمد عليه الغناء الريفي من القرن الرابع عشر إلى القرن التاسع عشر. اعتمد الغناء الريفي إيقاعيا على آلة (الدنبك) وهو آلة إيقاعية أكثر شيوعاً في الغناء الريفي يشبه الطبلة في الموسيقى العربية اليوم.
ظل الغناء الريفي مغيبا لأسباب كثيرة رغم وجود الكثير من المطربين الكبار والموهوبين الذين ابتكروا أنماطا غنائية حديثة من صلب البيئة الريفية وادخلوا في غناء الريف ألوانا كثيرة من الشعر الشعبي والفصيح والموشح . ووضع بعض المطربين ألحانهم بأنفسهم رغم أنها كانت بسيطة التكوين أي اقل من اوكتاف موسيقي او بضع علامات موسيقية وذات مقام واحد او مقامين في أفضل الأحوال . لكن تلك الألحان كانت شجية ومعبرة ومليئة بالعاطفة وبساطة تركيبها كان يجاري البساطة في الأغنية العربية خلال القرن التاسع عشر وبداية العشرين .
انحسار الاغنية الريفية
رغم ذلك ظل الغناء الريفي يعاني من التغييب منذ منتصف الخمسينيات لأسباب سياسية ، قياسا إلى المقام العراقي والموسيقى الغربية التي دخلت العراق مع الاحتلال البريطاني في العشرينات وأخذت حيزاً كبير في الإعلام والتعليم والمهرجانات والمحافل الموسيقية الدولية. وبسبب الهجرة من الريف إلى المدينة منتصف الأربعينات عرف الغناء الجنوبي الانتشار وانحسر دور الألوان الأخرى . في منتصف الستينات والسبعينات ظهر مطربون وملحنون وشعراء يستندون إلى ارث الغناء الجنوبي مثل سعدون جابر، حسين نعمة وفاضل عواد، ياس خضر، فؤاد سالم، قحطان العطار، رياض احمد، حميد منصور استطاعوا أن يثبتوا إمكاناتهم وأن يأخذوا مكانهم الصحيح
أطوار الاغنية
ظهرت أطوار غنائية كثيرة، تختلف من مدينة إلى أخرى ومن محافظة لأخرى، بسبب تنوع البيئة الاجتماعية والريفية مع ظهور الغناء الريفي وارتبطت تلك الأطوار بأسماء مدن، وبعضها بأسماء قبائل، وأخرى بأسماء عائلات عرفت بها تلك الأطوار، أبرزها الشطراوي، نسبة إلى مدينة الشطرة، وونين السوك، نسبة إلى مدينة سوق الشيوخ، والمحمداوي نسبة إلى قرية آل بو محمد في محافظة ميسان، وطور الصبي، نسبة إلى الصابئة المندائيين، والمجراوي الى مدينة المجر في ميسان، والحياوي نسبة إلى مدينة الحي في واسط، والعشرات من الاطوار الاخرى.
اميرة الغناء الريفي
هي وحيدة خليل اسمها الأصلي هو مريم عبد الله جمعة (1928 – 1995) ولقد تميزت بأداء بالغناء الريفي العراقي.
ولدت في عام 1928 في حي الرباط الصغير بمدينة البصرة جنوب العراق لأبوين عراقيين ، توفي والدها وهي صغيرة فنشأت يتيمة الأب وتولت والدتها رعايتها وتربيتها.
نشأت وهي تستمع إلى أطوار الأبوذية والمواويل المليئة بالحزن والشجن، وفي صباها تعرفت على صوت الملاية خلال الطقوس الحسينية في عاشوراء، وفي نفس الوقت كانت تستمع إلى أصوات معروفة بالغناء الريفي مثل حضيري أبوعزيز وداخل حسن وآخرين.
حين وصلت إلى بغداد عام 1940 كانت قد أتقنت فنون الأداء فضلا عما تميزت به من أناقة وحضور وخصصت لها الإذاعة مكانا بارزا بين مطربيها فقد كانت الصوت النسوي الوحيد في بداية الأمر قبل أن تظهر الفنانة لميعة توفيق. وقد لحن لها أهم الملحنين العراقيين مثل الفنان عباس جميل، ومحمد نوشي وآخرون.
توفيت المطربة وحيدة في أواسط عقد التسعينات.
اسماء خالدة في الفن الغنائي الريفي
من ابرز الأسماء الخالدة التي سجلتها الذاكرة الفنية العراقية في الفن الغنائي الريفي داخل حسن، حيث تصدر قائمة المغنيين الريفيين، ومن أبرزهم حضيري أبو عزيز، وناصر حكيم، وعبادي العماري، وعبد الزهرة مناتي، وحسن حول، ونسيم عودة، وسلمان المنكوب، وجبار ونيسة، وصباح السهل، ويونس العبودي، وغيرهم الكثير من الفنانين.
الاغنية الريفية تواجه الاندثار
تواجه الأغنية الريفية العراقية منذ سنوات الاندثار، ويسعى بيت الغناء الريفي في محافظة ذي قار إلى إحياء تراث الأغنية الريفية، من خلال إقامة الفعاليات والمهرجانات التي تعنى بفن الغناء الريفي.
العصر الذهبي
مع ظهور العصر الذهبي للأغنية العرقية اعتمدت الاغنية على قصيدة عميقة تحمل هموم الجنوب وحكمته، قصيدة بعيدة عن ترف المدينة أصبحت لها مقدمة موسيقية طويلة ولوازم تتخلل الأغنية . مساحات الصوت الريفي أوسع من غيره بسبب التكوين الجغرافي وتعدد المقامات والإيقاعات. فالمقارنة البسيطة بين أغنية ( يا طيور الطايرة) وبين أغنية ( طالعة من بين أبوها) يجعلنا ندرك أن الأولى تحتوي على أربعة مقامات و ثلاثة إيقاعات، أما الثانية فهي ذات إيقاع ومقام واحد كما يشير إلى ذلك احمد مختار في واحد من بحوثه .