مارلين كنعان أستاذة الفلسفة والحضارات، كاتبة وباحثة
يعد كتاب “فكر مناضل لأزمنة مضطربة، صفحات مختارة” المؤلَّف من 70 نصاً للفيلسوف الفرنسي إيمانويل مونييه بمثابة تذكير بأهمية العلاقات بين الأشخاص والحياة المجتمعية التي تتعزز من خلال فهم عميق لكرامة الإنسان في زمن يتسم بالخيبة وتتزايد فيه التحديات التي تهدد الإنسانية.
في كتاب بعنوان “فكر مناضل لأزمنة مضطربة، صفحات مختارة” تستعيد دار “ديكليه دو برووير” العريقة مجموعة مؤلفة من 70 نصاً للفيلسوف الفرنسي إيمانويل مونييه (1905-1950)، اختارها وقدم لها، تحت إشراف إيف لو غال، أكاديميون متخصصون في فكر أحد أبرز المفكرين في النصف الأول من القرن العشرين، مؤسس مجلة “إسبري” Esprit (روح) ومُطلق تيار الشخصانية. الهدف من جمعها هو تقديمها للمهتمين والقراء بغية تسهيل الاطلاع عليها والتعرّف ليس إلى الرجل وفكره والتزاماته الاجتماعية والسياسية فحسب، بل إلى التيار الشخصاني الذي أطلقه والتحديات التي يطرحها.
يضم الكتاب بين دفتيه إذاً عدداً من المقالات القصيرة، فضلاً عن تمهيد ومقدمة حملا توقيع جاك لوغوف، رئيس جمعية أصدقاء إيمانويل مونييه وأمين سرها السابق إيف لو غال.
مواكبة الأحداث الكبرى
وضع مونييه هذه النصوص في إطار مواكبته للأحداث التي عاصرها كالحرب الأهلية الإسبانية، ومؤتمر ميونيخ، والمقاومة ضد الاحتلال النازي لفرنسا، والنضالات المناهضة للاستعمار، والمصالحة الفرنسية- الألمانية التي اعتبرها نقطة انطلاق حقيقية لإعادة بناء أوروبا، في تجذر في معارك ونضالات كثيرة ومتنوعة لم تصرفه عن إيمانه المسيحي، بل على العكس من ذلك كان إيمانه هو المنبع الذي استقى منه مواقفه في مواجهة السطحية والفقر الفكري السائدَين في عصره. ففي بداية الثلاثينيات من القرن المنصرم وحتى وقوع الحرب العالمية الثانية، التزم مونييه ومجلّته مواجهة “أزمة الإنسان في القرن العشرين”، وسعى إلى تعميق توجهات الثورة “الشخصية والمجتمعية” التي أراد من خلالها محاربة “الفوضى القائمة”، من دون الوقوع في فخ الأنظمة الشمولية كالفاشية أو الستالينية.
قسّم المشرفون على الكتاب النصوص إلى ثلاثة أقسام. مهّد للقسم الأول المؤرخ برنار كونت بدراسة استعادت سيرة حياة مونييه، شدد فيها على الالتزامات الاجتماعية والسياسية للفرنسيين المنضوين تحت لواء الكنيسة الكاثوليكية في القرن العشرين، لا سيما الشباب منهم أيام “حكومة فيشي”. تطلعت هذه الدراسة إلى إتاحة فهمٍ أعمق للنصوص التي يؤلف مجموعها متن هذا القسم، والتي رسم فيها مونييه مسرى حياته أو تلك التي كتبها بعد مرض ابنته فرنسواز.
القسم الفلسفي
أما القسم الثاني، فهو القسم الفلسفي بامتياز. قدمت له الباحثة ماريا فيل لا-بيتي وضم مجموعة من النصوص المؤسِسة للشخصانية التي بيّنت أن هذا التيار الفلسفي ليس إقصائياً بقدر ما هو “منفتح على كل من سمع في داخله ذاك النداء الصامت ليصبح أكثر إنسانية، محققاً في فردانيته الشخص الذي هو عليه”.
فيما الجزء الثالث، ذو الطابع السياسي، والذي قدم له غي كوك، المتخصص في فلسفة التربية والعلمانية، فقد سلّطت نصوصه الضوء على موضوع الالتزام الذي يُعد سمة مميزة لفكر مونييه، وكذلك على أهمية الحدث بوصفه فعلاً جوهرياً في مسيرة الفيلسوف الفكرية.
تكشف هذه المجموعة من النصوص عن مدى عمق التزام مونييه بالفكر الإنساني وإصراره على ضرورة النظر إلى الإنسان ككل، في تأكيد على مركزية الشخص في سعيه إلى المعنى وتحقيق الذات وعلى ضرورة الاعتراف به كإنسان فريد يملك قيمة جوهرية. ذلك أن مصير الإنسان بعرف هذا الفيلسوف لا يقتصر فقط على الأبعاد المادية، بل يشمل أيضاً جوانيته وكل ما يتجاوزه ميتافيزيقياً في تركيز على الكرامة والحرية والمسؤولية الفردية والاجتماعية.
إيمانويل مونييه “فكر مناضل لأزمنة مضطربة، صفحات مختارة”، باريس، ديكليه دو برووير، 2025
أهمية الحياة المجتمعية
الكتاب بمثابة تذكير بأهمية العلاقات بين الأشخاص والحياة المجتمعية التي تتعزز من خلال فهم عميق لكرامة الإنسان في زمن يتسم بالخيبة وتتزايد فيه التحديات التي تهدد الإنسانية.
تدعونا هذه النصوص اليوم إلى “حب المخاطرة” و”الشجاعة الفكرية” من خلال مقاربتها القضايا الاجتماعية والسياسية من زاوية الشخصانية التي تقوم على العدالة والتضامن واحترام الحقوق الفردية، منتقدةً الأنظمة التي تسلب الإنسان إنسانيته، داعيةً إلى تصور أكثر أخلاقية للسياسة. ويبدو أن معدي الكتاب حاولوا أن يقولوا لنا إن الشخصانية، كما صاغها مونييه، لا تزال تحتفظ براهنيتها، ويمكن لها أن تشكّل نواة إجابة فلسفية واجتماعية على التحديات التي تطرح بثقلها على الإنسان المعاصر. فالشخصانية كما تتبدى في هذه النصوص هي دعوة دائمة لمركزية الإنسان في كل مشروع اجتماعي أو سياسي. وهي، على ما يقول ألبير بيغان، الذي خَلَف إيمانويل مونييه عام 1950 في إدارة مجلة “إسبري” التي عملت على تأسيس أخوّة إنسانية قائمة على قيم مشتركة ومنهجية تشجع النقاش وتعددية الآراء، تشدد على أعمق احتياج لدى البشر وهو البحث عن المعنى. فالإنسان بحاجة دوماً إلى معنى، وعصرنا المضطرب يجعل هذا المطلب أكثر إلحاحاً.
هل يجب أن نيأس من الإنسان؟