د.عدالت عبدالله
لجأت الحكومات المتعاقبة في العراق الى سياسة الإنتقائية في التعاطي مع الدستور وتنفيذه، وذلك نتيجةً لإفتقارها لأهم عنصر أو دعامة لشرعيتها السياسية وبقاؤها، ألا وهو دعم مكونات المجتمع لها ولسياساتها، التي غالباً ما كانت محصورة في تعظيم مكانة الدولة وسطوتها على حساب تقوية المجتمع وإرساء حقوق وحريات أبناء البلد.
لم يشهد العراق لا في تاريخه القديم ولا الحديث نظاما سياسياً يكون مدعوماً من قبل كافة مكونات المجتمع. في عهد الملكية بُنِيَت الدولة على جثة مباديء استقلالية البلد وإرادة الأغلبية، وحقبة الإنتداب البريطاني منذ عام (1920) الى عام (1932) كانت بمثابة حقبة سلب إرادة الدولة العراقية أيضاً وليس الشعب وحدها.
أما حقبة الجمهورية، كما نقرأها في كُتب التاريخ وما يرويها لنا مُعاشريها، فكانت هي الأخرى، كلها تقريباً حقب الإنقلابات السياسية والعنف الثوري، وذلك بفعل طغيان آيديولوجيات عالمية/كوزموبوليتية تفشت في منتصف القرن الماضي على المستوى العالمي وتأثرت بها النخب السياسية في العراق وإتجاهاتهم المختلفة، وبالتالي تشبث هذه النخب السياسية والعسكر أيضاً بمفاهيم وافكار تلك الآيديولوجيات الثورية وترجمتها لقلب أنظمة الحكم في البلد.
والمفارقة هي أن في كل مرة سُوغَت كل تلك التحولات العنيفة المتتالية في العراق بأسم عامة الناس وإرادة الشعب العراقي دون أي يكون أي من النخب المُنقلِبة على نظام الحكم مُفوّضة شعبياً، والأسوأ أنه جاء كلها تقريباً الى سدة الحكم عبر ممارسة العنف الثوري وبالتالي إخضاع البلاد والعباد لآيديولوجيات سياسية غير ديمقراطية أو شمولية، وبالتالي إستبعاد أي صوت معارض لنظام الحكم في العراق وإقصائه.
وبهذا المعنى يتبين لنا إذن وبوضوح لِمَ كانت القوانين الأساسية أو الدساتير في العراق (1925، 1958 ،1963، 1964، 1968، 1970، 1990، 2004، 2005) هي كلها ليست سوى نصوص مؤقتة، ولماذا كانت تُتبع سياسات إنتقائية في تنفيذها، وماالسبب في أن يستمر هذا التراث السياسي الإشكالي في التعامل مع الدستور الى يومنا هذا للأسف، أي الإنتقائية في تنفيذ الدستور حتى في عهد ما بعد النظام البائد في العراق، والذي كان يُفترض أن يكون عهداً جديداً ومختلفاً تماماً، بل مُمهداً لقطيعة سياسية تدريجية مع كل ما يمت بالعهود الماضية بصلة ولكن دون نرى هذا!, بل على عكس ذلك وصول الأمر بنا أحياناً الى حد تبجيل عهد الٲنظمة السیاسية البائدة في العراق!.
والأخطر من ذلك اليوم هو أننا لا نلاحظ حتى أي خطاب سياسي وإعلامي حقيقي و مقاوم في العراق يتبنى مراجعة نقدية لأحوال البلاد والعباد ويدعو الى العقلانية السياسية وتذكير المتنفذين في الدولة العراقية بأن العقد الإجتماعي الجديد المستوحاة من فرضية الدمقرطة في العراق ونهاية الغبن السياسي هو مرهون تماماً بتطبيق عادل لبنود الدستور وموادها وليس اللجوء مجدداً الى الإنتقائية في التعاطي والممارسة، والتي تزعزع ثقة مكونات الشعب بالدستور لا محالة وتهدد بنية الدولة والنظام السياسي معاً.
٭ اکادیمي في معهد KTI وباحث في المركز الاكادیمي للدراسات الوطنية ACNS
-المقال منشور في جریدة الزمان اللندنية، /2024/3/29