الكاتب:رباح آل جعفر
وأنت تقف في حضرة النبي العظيم وإلى جواره ومن أجله. تقول ما لا تعرف وما لا تدري. شيءٌ غريب عجيب لا يُوصف. حتى الكلمات لا تجدها. فكل شيء من حولك ينطق ويضيء ويقول. وتنتظر طيف الحبيب في النوم. والسعداء هم الذين يرون النبي في منامهم.
وهناك عشَّاقٌ ومتصوفة عاشوا وماتوا وحاولوا بالصلاة وبالدعاء لكنهم لم يروه صلى الله عليه وسلم. وتخطر في بالك قصيدة البوصيري التي يدفع فيها العذل والملام فيقول:
يا لائمي في الهوى العذريِّ معذرةً
منّـي إليـكَ ولــو أنصفـتَ لم تَلُــمِ
والبوصيري شاعر الهمزية النبوية الرائعة: كيف ترقى رقيّك الأنبياءُ؟ شاعر ظريف. ورجل طيّب. ومتصوف مؤمن من قرية في بني سويف بالصعيد المصري.. يُقال إنه كان نصف مشلول وكتب قصيدة يستشفع في أبياتها إلى الله. ودعا وتوسّل. وفي نومه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولمَسَ وجهه بيده الكريمة. فنهض من نومه معافى وخرج من بيته ليقول: إن النبي ألقى عليه “بُردة” أي ثوباً. فكانت أشهر قصيدة قيلت في النبي: قصيدة البردة.
لكن البوصيري لم يكن أولهم. فهناك سلطان العاشقين وشيخ العارفين ابن الفارض كان يشتكي الحرمان ويتغنّى بالوجدان في حب النبي صلى الله عليه وسلم. وكل شيء في الوجود يمثل في شعره صورة الحبيب. وكان يتعلق بطيف الملام حين يعزُّ عليه طيف المنام. فيقول:
يا لائماً لامني في حبِّـهم سَفهاً
كفَّ الملامَ فلو أحببتَ لم تَلُـمِ
ثم جاء من بعده أمير الشعر والنظم والقوافي أحمد شوقي بعذوبته ورقته يتصيّد طيف المحبوب من عالم الأرواح ليقول في نهج البردة:
يا لائمي في هواهُ والهوى قَــدَرٌ
لو شفَّكَ الوجدُ لم تعذلْ ولم تَلُمِ
وهذه القصائد الثلاث من أجمل ما قيل في الأدب النبوي. من داليّة الأعشى إلى لاميّة كعب “بانتْ سعاد فقلبي اليوم متبولُ” ومن أشعار حسَّان إلى رائيّة ابن نباتة المصري. من نجد إلى تهامة وبين الريم والعلم. تقرأها فتشعر كأنك ذرة من العطر تتلاشى في بحر من الضوء. كأن النجوم تريد أن تسقط على الأرض، أو أن الأرض تقترب من السماء. إنها من مدامع العشَّاق ولوعة الوجد بما يذكي القلب بأقباس الحنين.
وابن الفارض كان أرقّ وأعدل. والبوصيري كان أصدق وأجمل. وشوقي كان أعمق وأجزل. والحبّ لا يكون إلا على قدر المحبوب، بل أن الحبّ لا يكون إلا على قدر العلاقة بين المحب والمحبوب إذا سكن الليل بصبابته، واشتد وطيس الضرب من شدة الشوق على الدفوف، وعلى الخافقات من القلوب، بين الذاكرين والهائمين من العشّاق المعاميد.
وليس الشعراء وحدهم يسألون النبي في قصائدهم الشفاعة. فكثير من كتَّابنا يتشفَّعون بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام في الدنيا قبل الآخرة فيؤلفون الكتب في سيرته. كتب هيكل باشا “حياة محمد”. وكتب عباس محمود العقاد “عبقرية محمد”. وكتب طه حسين “على هامش السيرة”. وكتب توفيق الحكيم “محمد”. وكتب عبد الرحمن الشرقاوي “رسول الحرية”.. فلا يريح النفس ويطمئن القلب أكثر من راحة الإيمان. نبيٌّ في الأرض وربٌّ في السماء.
تلك عظمتك يا رسول الله.